بعد أن مرّ على اليهود 70 سنة وهم سبايا في بابل، تغيّر ميزان القوى السياسية، فقد خرجت جيوش الفرس الجرارة بقيادة قورش (سنة 536 ق.م) في واحدة من أكبر حركات التوسع الاستعماري في العصور القديمة استطاعت أن تضم فيها مملكة بابل (العراق) وأجزاء من الجزيرة العربية وكل الشام، وفي عهد قمبيز خليفة قورش سيصل الفرس إلى مصر ويظلون يحتلّونها 200 سنة كاملة.. بين الفرس والإسكندر المقدوني يذكر المؤرخون أن ثمة "اتصالات سرية" قد تمّت بين الفرس واليهود، تعهد اليهود فيه بتخريب العراق عند هجوم الفرس عليه، بينما أعطى الفرس لليهود وعداً مثل "وعد بلفور" يتعهدون لهم فيه بإعادتهم إلى فلسطين من جديد، وقد التزم كلا الفريقين بما تعهد به، وعاد "بعض" اليهود إلى فلسطين سنة 539 ق.م، والغريب أن كثيراً من اليهود لم يوافقوا على الرجوع إلى فلسطين بعد السبي مفضّلين الإقامة والاستقرار في رخاء العراق عن الرجوع إلى قحط أرض الميعاد، وهو ذات ما فعله أغلب اليهود اليوم عندما آثروا الاستقرار في بلادهم عن الهجرة إلى إسرائيل. وقد استطاع اليهود الذين رجعوا إلى فلسطين أن يعيدوا بناء الهيكل من جديد سنة 516 ق.م، وظل اليهود يدفعون الجزية للفرس طوال قرنين من حكم الفرس لفلسطين، إلى أن تغيرت موازين القوى من جديد، وخرج الإسكندر المقدوني من بلاد اليونان طامحاً في توحيد العالم كله تحت حكمه، فاستطاع أن يضم مصر والعراق والشام وإيران إلى إمبراطوريته الضخمة التي امتدت من بلاد اليونان إلى الهند، ولكن القدر لم يُمهله، وتوفي الإسكندر وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، تقاسم مملكته الشاسعة 4 من قواده يهمنا أن نعرف منهم القائد بطليموس الذي ستكون مصر وليبيا ونصف الشام من نصيبه، والقائد سلوقس الذي ستكون إيران ونصف الشام الآخر من نصيبه، وقد تنازع الشام كل من البطالمة والسلوقيين لما يزيد عن 20 سنة حتى استطاع السلوقيون أن يحسموا الأمر لصالحهم في النهاية، فأصبح الشام -ومنه فلسطين بالطبع- تابعاً للسلوقيين حتى سنة 63 ق.م حين احتله الرومان. الثورة المكابية من المهم هنا أن نوضح أن الإسكندر المقدوني وقائديه بطليموس وسلوقس هم يونانيون في النهاية، والفتوحات اليونانية القديمة تختلف عن توسعات المصريين القدماء والبابليين والآشوريين، ففي حين كانت تلك الإمبراطوريات تكتفي من البلاد المهزومة بدفع الجزية والخضوع السياسي فحسب، كان اليونانيون يعملون على نشر ثقافتهم وحضارتهم في البلاد المفتوحة، أو على الأقل مزج الحضارة اليونانية بحضارات تلك البلاد، سواء تم ذلك بذكاء كما فعل الإسكندر المقدوني الذي أعلن في مصر أنه ابن آمون وفي الهند أنه بهادرسكا إله الخصوبة وراعي الحقول والنباتات، أو تم ذلك بعنف مثلما فعل الملك السلوقي أنطيوخس الرابع الذي أمر بإلغاء الطقوس الدينية اليهودية، وفرض عبادة الإله زيوس بدلاً من يهوه إله اليهود، ومنع اقتناء الأسفار اليهودية المقدسة والختان، فانقسم اليهود إلى قسمين: قسم انصرف عن الشريعة اليهودية واقتدوا باليونانيين، وقسم آخر أقل تمسكوا بشريعتهم، بل وازدادوا تشدداً فيها. ومع ضعف الدولة السلوقية واشتداد ساعد المتشددين، أخذت بوادر الغضب تتجمع في صدور المتشددين ضد الحكم اليوناني، حتى أشعل الثورة الكاهن متاتياس كبير عائلة الحشمونيين وأبناؤه الخمسة سنة 167 ق.م، وعندما مات خلفه ابنه يهوذا الملّقب بالمكابي (والمكابي تعني المطرقة)، والذي حارب السلوقيين في أكثر من موقعة وانتصر عليهم، مما ترتب عليه أن تراجع أنطيوخس الرابع عن اضطهاده لليهود، وسمح لهم بممارسة دينهم، فعاد المكابيون إلى القدس وهم يشعلون الشموع، ومن هنا جاء الشمعدان اليهودي الشهير، وما زال اليهود يحتفلون بعودة المكابيين إلى القدس في عيد الأنوار "حانوكا" وأصبح لليهود من حينها حكم ذاتي في القدس، فأصبح ذلك الحكم وراثياً في ذرية يهوذا المكابي، وحكم المكابيون القدس باعتبارهم "كبار كهنة"، ثم أعلنوا أنفسهم ملوكاً رغم أنهم كانوا يدفعون الجزية للسلوقيين! على أية حال عرفت هذه الثورة تاريخياً بالثورة المكابية أو الحشمونية نسبة إلى "حشمون" الجد الكبير للأسرة، ويعزو المؤرخ الكبير أرنولد توينبي نجاح الثورة المكابية إلى تأخّر وصول الرومان إلى فلسطين إثر ضعف الدولة السلوقية وليس لقوة المكابيين. والغريب أن الثورة المكابية تحولت من حركة لمقاومة الحكم اليوناني، إلى قوة اضطهدت الشعوب التي كانت تعيش في فلسطين، بل وفرضت عليهم أن يدخلوا في الدين اليهودي قسراً، وسنعلم في الحلقة القادمة أن ادّعاء اليهود بأنهم لا يقومون بالتبشير (الدعوة) لدينهم هو محض ادّعاء لا أساس له من الصحة، فقد قام المكابيون في الفترة من (102 – 76 ق.م) بتهويد عدد من شعوب المنطقة بالقوة، ومن سخرية القدر كما يقول المؤرخ أرنولد توينبي أن من ضمن الشعوب التي تم تهويدها قسراً شعب الجليل الذي سيخرج منه السيد المسيح ليقضي على مستقبل اليهود إلى الأبد.. الدياسبورا على الرغم من المعاملة المتميزة التي منحها الرومان لليهود كإعفائهم من خدمة الجيش والسماح لهم بالتحاكم أمام محاكم دينية خاصة بهم، إلا أن اليهود لم يكفّوا عن إثارة القلاقل والفتن، فثاروا سنة 66م ضد الحكم الروماني، وهي الثورة التي سحقها القائد الروماني تيتوس سنة 70م بمساعدة الفرق العربية والسورية الموضوعة تحت إمرته، ولأن الرومان قد حاصروا أورشليم (القدس) طويلاً دون أن يتمكنوا من اقتحام أسوارها، فقد كان انتقامهم عنيفاً عندما نجحوا في دخولها أخيراً، فدمّروا أورشليم تماماً، وهدموا الهيكل للأبد، ولم يبقَ منه إلا السور الخارجي الغربي الذي يُعرف اليوم بحائط البراق ويدعوه اليهود حائط المبكى. واستمرت القدس لنحو 60 سنة مخرّبة تماماً إلى أن أعاد بناءها الإمبراطور الروماني إيليا هادريان، وأعطاها اسماً مشتقاً من اسمه: إيليا كابتولينا -ومنه عرفها العرب والمسلمون باسم "إيلياء"- وفي ذلك الحين ظهر في فلسطين رجل يهودي اسمه بركوكبا وادّعى أنه المسيح المنتظر، وأخذ يدعو اليهود إلى مناصرته والثورة على الرومان، فبعث هدريان إلى فلسطين بجيش ضخم على رأسه القائد الروماني الشهير سفروس الذي سحق ثورة بركوكبا سنة 132م، ولتبدأ من حينها "الدياسبورا" أي شتات اليهود في كافة أنحاء الأرض.. والحقيقة أنني لم أجد كلمة معبرة عن حكاية اليهود أكثر مما قاله ه. ج ويلز في كتابه "موجز التاريخ": "كانت حياة اليهود في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومن البدء حتى النهاية لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم". الحلقة القادمة: فلسطين.. عربية؟! اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (1).. شعب الله المختار ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (2).. خروج اليهود من مصر إلى التيه ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (3).. مملكة اليهود وهدم هيكل سليمان؟!!