الي متي يريد هؤلاء المتعصبون الصهيونيون, ان يمضوا في تشويه موقف اليهود في العالم لصالح مطالبهم الخيالية القومية؟! والي متي يريد اليهود في امريكا وفي البلدان الاخري, ان يواصلوا السكوت عن مثل هذه التصريحات والمطالب القومية بلا اعتراض؟! ومقولة القاضي جاكوب بانكن هذه في صحيفة امريكان ميركوري عام1960, ان كانت تصلح لزمن ما, فإنها تصلح لزماننا هذا الذي نعيش فيه, والذي تم فيه تمرير مخطط ليهودية الدولة في سبيل حسابات حزبية وشخصية ضيقة, غير مكترثة بحقائق التاريخ ولا مجري التاريخ, ويحضرنا في هذا المقام قول فرانتس شايدل في كتابه اسرائيل امة مفتعلة لا يحتاج الصهاينة الا ان يفتحوا كتاب تاريخ البشر, وان يتتبعوا المصائر التي كتبت بلا استثناء لكل الامم ذات المطامح والخطط والاهداف القومية المشابهة, بعدما وصلت اليه من ارتقاء ابعد شأنا, وضروب من النجاح ذات بريق خلاب. وليس ادعي من اقناع المرء, من مصير اليهود انفسهم, وبالتحديد في عهد الدولة المكابية التي لم تعمر اكثر من ثلاثة ارباع القرن من الزمن, وانتهت علي يد القائد الروماني بومبي عام63 ق.م والتي تمثل الفترة الوحيدة التي سعي اليهود فيها لتهويد فلسطين. وجدير بنا ان نذكر في هذا المعرض ان فلسطين كانت تابعة في القرن الثاني ق.م, للحكم السلوقي في سوريا وفي عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع راحت فئتان من اليهود تقتتلان داخل اسوار القدس عام170 ق.م, فدخل الملك القدس وقمع الفتنة وانهاها, وبعد سنتين دخلها ثانية وفرض الختان القسري علي من فيها من اليهود, فهب كاهن يسمي متاتيا واعلن العصيان علي الملك وفر الي الجبال, وتبعه اليهود الذين اخذوا يمارسون حرب العصابات, وكان من اسرة تسمي المكابية وبعد موته ورثه ابنه يهودا الذي تابع حرب العصابات ضد السلوقيين, وقد استطاعت هذه الاسرة الاستيلاء علي القدس عام165 ق.م وفي عهد الملك ديمتريوس الاول ارسل الي القدس جيشا حاصرها وقتل الكاهن يهودا وشتت جيشه, ولكن يوناثان شقيق يهودا جمع جيشا جديدا وراح يقاتل السلوقيين حتي اجبرهم علي الانسحاب فاستراح اليهود في القدس فترة, وفي كنف تلك الظروف استدعي يوناثان الي عاصمة السلوقيين انطاكية وغدر به هناك عام143 ق.م, ولكن سمعان وهو شقيق يوناثان ويهودا, راح يجمع القوات المكابية, واستطاع طرد السلوقيين واعلان الاستقلال عنها, بيد أنه اغتيل بيد صهره, فورثه ابنه هركان الاول 135 ق.م فحكم زهاء ثلاثين سنة, حارب خلالها جميع الذين اصطبغوا بالصبغة اليونانية, سواء اكانوا من اليهود ام من الوثنيين كما حارب السامريين وهدم مدينتهم- السامرة ومعبدها, وهذه الطائفة لا تؤمن الا بالاسفار الخمسة الاولي من العهد القديم ومازالت بقاياها في نابلس حتي اليوم. وفي كنف تلك الظروف حشد انطيوخس السابع جيشا كبيرا وحاصر القدس, وانتهي ذلك الي عقد تسوية يصبح بمقتضاها هركان من اتباع الملك, بيد انه بعد مرور خمس سنوات قام انطيوخس بمهاجمة الفرس ومعه هركان, وبخسران جيش السلوقيين, عاد هركان للقدس واعلن استقلاله عن السلوقيين ثم شرع بتوسيع مملكته, فشملت ادوم, واجبر الادوميين علي التهود زهاء عام125 ق.م وحدث ان مات هركان ليرثه ابنه ارسطو بولس ليحكم ثلاث سنوات, ولكنه توج نفسه ملكا علي اليهود خلال هذه الفترة. ومات ارسطوبولس حزنا علي اخيه الذي امر بقتله, فورثه اخ اخر يسمي اسكندر جناديوس 103 76 ق.م وفي عهده بلغت الدولة المكابية اوسع مساحة لها, اذ مد نفوذه حتي شمل الجليل, وقد فرض علي سكانه ان يختاروا بين التهود وبين الطرد من البلاد, وكانوا قد بنوا دولة لهم مركزها عنجر في سهل البقاع, كما كانوا يتكلمون الارامية ويحملون ثقافتها. وقد آثر بعض الجليليين ان يرحلوا عن الجليل اشمئزازا من التهود, اما غالبيتهم العظمي فقد اثرت البقاء علي قاعدة التقية وبقيت ثقافتهم علي عهدها, وقد تثقف بها السيد المسيح, وهذا بدوره جدير بان يفسر لنا الفرق الجوهري بين النصرانية واليهودية. فقد ظل الجليل يسمي جليل الامم او هكذا وصف في الاناجيل بعد جناديوس باكثر من مائة عام, وبما ان سكان الجليل متهودون, وليسوا يهودا اصليين, فقد ظل الاحبار ينظرون اليهم نظرة مواطنين من الدرجة الثانية, ولذلك قالوا يوم ظهر السيد المسيح: امن الناصرة يجيء شيء حسن؟ وحقيقة الامر ان سكان الجليل لم يتكلموا اللغة العبرية الا بلكنة ورطانة. وبعد ان انتهي جناديوس من امر الجليل اخذ يشن الغارات علي الساحل من صور الي غزة, وراح يخير الناس بين التهود او الموت, كما حاول ان ينشر اليهودية بين الانباط العرب الآدوميين شرقي الاردن, وبمثل هذه الاساليب حاول حكام اليهود ان يهودوا شعب فلسطين, ولكن ذلك لم يتيسر لهم تماما, اما المدن التي انزل المكابيون فيها يهودا, فقد اخرجوا منها فيما بعد, وهكذا قد احاق بفلسطين بسبب هذا العصيان, وخاصة خلال الفترة التي مرت بين تأسيس الاسرة المكابية ووصول القائد الروماني بومبي الي فلسطين عام63 ق,م مصائب ومعارك اتت علي الحرث والضرع, ولما اشتد التنافس بين افراد الاسرة, ثم لما ثار الفريسيون علي المكابيين94 88 ق,م, زادت المصائب حجما ومساحة وعمقا, بحيث كان مجيء بومبي انقاذا لارواح الذين لم تحصدهم سيوف المكابيين من مخالفيهم, بقطع النظر عن العنصر الذي انتسبوا له او الجهة التي ايدوها. وشاءت الاقدار ان احد العرب الادوميين ومن قبيلة جذام التي عرفها التاريخ الغربي باسم ايدوم والذين تم تهويدهم بالاكراه, سنحت له الفرصة للانتقام لابناء جنسه العرب. وليقضي علي ملك المكابيين, بعد ان دام125 عاما, وان يصبح ملكا علي فلسطين بأجمعها, فضلا عن منطقة عبر نهر الاردن, ويؤسس دولة الهرادسة التي حملت اسمه هيرودوس والتي حكمت فلسطين من عام37 ق.م الي عام100 بعد الميلاد, ولقد كان ملكا عظيما, فلاغرابة ان يكون يوليوس قيصر قد امتدحه, واصاب الامبراطور اغسطس عندما قال: كان من العظمة بحيث في وسعه ان يحكم مصر والشام معا, فقد كان احكم رجل اختارته روما لحكم البلاد. ويمكننا اجمال التطور الذي طرأ علي علاقة روما باليهود, بان اليهود قد كسبوا كره كل من يحيط بهم حتي السيد المسيح نفسه والذي جاء لهدايتهم, ومما تنبأ به لهم قوله: يقعون في فم السيف, ويسبون الي جميع الامم, وتكون اورشليم مدروسة من الامم, حتي تكتمل ازمنة الامم, وبالفعل لم ينقض علي هذه النبوءة اكثر من39 عاما, حتي اجتاح اورشليم القائد الروماني تيتوس الذي كانت في جيشه فرقة من العرب, وكان ذلك عام70 م فحطم مدينتهم وهيكلهم, لكي يشل مخططهم الرامي للتهويد. وقد تكرر الامر نفسه في عهد هادريانوس الذي لم يأل جهدا في تدعيم اركان الامبراطورية الرومانية من خلال نشر السلام في شتي ارجائها, ومما يؤثر عنه حبه للشرق عامة وفلسطين خاصة, وقد زارها عدة مرات, وولدت لديه هذه الزيارات كرها جارفا لليهودية, لما كان يعتورها في ايامه من عنصرية بدائية تحول دون تحقيق ما كان يصبو إليه من السلام العالمي, ومن ثم عقد العزم علي تنفيذ مثله الاعلي ولواقتضي ذلك استخدام القوة, وتم ذلك بالفعل عام131 م, حين اصدر عدة مراسيم. بغية حملهم علي التخلي عن عنصريتهم والاندماج في مشروعه, مما اثار حقد اليهود عليه. والذي تمخص عن خوض حرب جديدة علي الرومان, فقاموا بحركة عصيان شاملة قادها يهودي مجهول الاصل اسمه الحقيقي سيمون توفرت فيه شأنه شأن وزير خارجية اسرائيل الحالي افيجدور ليبرمان صفات اللص والقاتل, وادعي هذا المأفون انه المسيح المنتظر واطلق علي نفسه اسم باركوخبا اي ابن الكوكب, الذي تنبأت به التوراة في سفر العدد, ولقد نال هذا الدجال دعم الحاخام الاكبر, كما نال ليبرمان دعم نتنياهو وباراك لسن قانون الولاء لاسرائيل, واجتمع تحت لوائه مائة الف يهودي, ويستحيل علينا هنا ان نلم بمجريات احداث هذا الصراع مهما اوجزنا في هذا الالمام, وحسبنا التركيز علي النتائج واهمها: اسر باركوخبا واتباعه, والتنكيل بهم جزاء ما اقترفته ايديهم, ويخلص الدكتور جمال حمدان من هذا كله الي القول في كتابه اليهود انثرو بولوجيا- وهكذا قوبلوا بمذبحة نهائية علي يد هادريان ختمت الي الابد علي مصير اليهود بوصفهم دولة قومية فعدا تدمير اورشليم والهيكل مرة اخري بعد تيتوس صفيت بقايا اليهود بالابادة والهجرة فذاك انقراض جنسي حقيقي لم يكد يترك منهم شيئا, وكان هو التاريخ الذي انتهت فيه والي الابد علاقة اليهود بفلسطين سياسيا وسكانيا.