في كنف افتتاح كنيس الخراب, الذي يعده البعض أكثر خطورة علي المسجد الأقصي من الكنيست نفسه, لا نستطيع أن نتجنب الاستنتاج القائل, إنه بعد أن سقط قناع أهم مرتكزات وجودهم, وأقصد الحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين, استعاضوا عنه بحق القوة الغاشمة. بحسب الأساطير والنبوءات اليهودية, فإن بناء كنيس الخراب, يقربهم مما يسمونه بخلاص اليهود, حيث تتحدث الجماعات اليهودية عن نبوءة مفادها, أن حاخاما إسرائيليا يسمي جاؤون فلينا أعلن عام1750 متنبئا بأن يوم البدء في بناء الهيكل الثالث المزعوم, هو اليوم الذي يلي إعادة افتتاح كنيس الخراب, وحسب المزاعم اليهودية أنه في بداية القرن الثامن عشر, قامت مجموعة من اليهود بدفع رشوة للباشا العثماني وحصلوا علي تصريح لبناء معبد علي موقع معبد قديم للحاخام يوحنان بن زكاي وفي عام1721 تم هدمه من قبل العثمانيين نتيجة لعدم دفع الضرائب والرسوم المفروضة علي المكان. ولذلك سمي بكنيس الخراب, نسبة للخرابة التي أحدثها هدم المعبد, واستمر خرابا حتي عام1808. حيث جاءت إلي القدس جماعة من اليهود الاشكنازيم, فحاولوا اعادة بناء الكنيس, بيد أنهم فشلوا في ذلك لمنع السلطات العثمانية عملية البناء, لكون المنطقة مأهولة بالعرب المسلمين, وفي عام1834 وقع زلزال شديد, فانتهز اليهود هذه الفرصة وحالة الاستعطاف العام, وبدأوا بجمع التبرعات, وفي عام1857 شرعوا ببنائه الذي اكتمل عام1864, وظل الكنيس علي حاله حتي عام1948 عندما حاصر الجيش الاردني مجموعة من العصابات الصهيونية الهاجاناه داخل المعبد وطلب منهم اخلاءه, ثم تم هدمه في اليوم التالي بأمر من القائد عبد الله التل حتي لا يظل ذريعة للهاجاناه بالتمركز فيه, واعتباره معسكرا بدلا من دار عبادة, وعلي أي حال, فإن بقاء هذا المعبد من سنة1864 1948 دون أن تتحقق نبوءة جاؤون فلينا يعد كمن سجل هدفا في مرماه, وهذا بدورااه جدير بأن يفسر لنا استعاضة الصهاينة عن هذه النبوءة بنبرة القوة والإرهاب, فها هو الأب الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل يصف القدس التي يريدها بقوله: إذا حصلنا علي القدس يوما, وكنت لا أزال حيا وقادرا علي القيام بأي شيء, فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا فيها أي ليس يهوديا وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها القرون ووفقا لهذا النسق من فكر الهيمنة الطاغوتي, جاءت أقوال من عاصر هرتزل ومن جاء بعده من كبار زعماء الصهيونية, ونظرا لضيق المجال, نقتصر علي أقوال اثنين منهم. أولهما ديفيد بن جوريون الذي قال في أحد أحاديثه: لا معني لإسرائيل بدون القدس, ولا معني للقدس بدون الهيكل, وما قاله مناحم بيجن عام1958 أمام ممثلي الجيش الإسرائيلي: إن قلوبكم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تتألم وأنتم تقتلون عدوكم, ولا يجب أن تأخذكم به شفقة, مادام أننا لم نقض بعد علي ما يسمي بالتراث العربي الفلسطيني, الذي سوف نبني علي أنقاضه حضارتنا الخاصة, ولم يكن حريق المسجد الأقصي في1969/8/21 إلا حلقة من حلقات المخطط الصهيوني لتهويد القدس وهدم المسجد الاقصي. ومثل هذه الاعتبارات قمين بأن يقودنا إلي أحداث يوم الثلاثاء الماضي, حيث اعلنت الجماعات اليهودية المتطرفة البدء الجدي والفعلي ببناء الهيكل الثالث المزعوم مكان المسجد الاقصي, وأعدت حجارة خاصة, قالت إنها أساس بناء الهيكل, وتم تغليفها بالأعلام الصهيونية, ووضعها علي شاحنة خاصة بالقرب من باب المغاربة بانتظار نقلها إلي داخل المسجد الأقصي. إننا نستطيع القول بلا أدني تردد, إننا لا يمكننا تفهم هذا الأمر الخطير, إلا إذا أخذ مرتبطا بالفشل الذريع الذي لحق بالصهاينة طوال أكثر من مائة وخمسين, ذلك أنه لم يتم العثور علي أي أثر يدعم ما جاء في كتابهم المقدس حول هيكلهم المزعوم, وكل أثر جديد يكتشف علي صعيد الحرب الدائرة علي جبهة علم الآثار, بات يعمق الهوة بين أساطير التوراة وحقائق التاريخ, ويشكل عامل فناء للحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين عامة, وفي القداس علي وجه الخصوص, فالتنقيبات الآثارية قد أضافت الكثير من الارباكات المعقدة لأصحاب الخطاب التوراتي, وغدت فكرة ايجاد مجتمع موحد حول هيكل سليمان وإعلائه علي كل ما عداه دينيا وسياسيا من قبيل المستحيل, ولقد تنبه إلي ذلك منذ وقت مبكر الكثير من نبلاء الضمير الذين تمكنوا من الافلات من قبضة أصحاب الخطاب التوراتي, نذكر منهم المفكر اليهودي موشي مينوحين الذي انتهي في كتابه انحلال اليهودية في عصرنا إلي نتيجة مؤداها: أن القومية اليهودية تمثل قوة مخربة علي نطاق عالمي, تلحق الضرر بيهود جميع الأمم, كما تمثل تشويها لليهود وللعقيدة اليهودية وكان وليام تسوكرمان قد كتب في صحيفة أمريكان ميركوري عام1960 لقد دخلت الحركة الصهيونية سلف إسرائيل الأيديولوجي وحجر أساسها حالة من الأزمة تقترب بسرعة هائلة من الانهيار, ومن كان يتمني لليهود شرا, فما عليه اليوم إلا أن يتمني لهم شيئا واحدا, هو أن تظل دولة إسرائيل قائمة, وأن تمضي الصهيونية في إيجاد الاضطرابات مع اليهود في العالم كله وجريا علي هذا النسق من الافكار, انتهي فرانتس شايدل في كتابه إسرائيل أمة مفتعلة : إلي أن الصهيونية القومية تسير علي أفضل طريق يؤدي بها إلي أن تصبح حفارة قبور اليهود, ولا يحتاج الصهاينة إلا أن يفتحوا كتاب تاريخ البشر, وأن يتتبعوا المصائر التي كتبت بلا استثناء لكل الأمم ذات المطامع والخطط والأهداف القومية المشابهة... لقد انهارت بالمغامرات القومية مجموعات بشرية, أكبر وأحكم بنيانا وأشد بأسا من هذا الركام المتنافر من اليهود الذي سفته الرياح من كل صوب وحدب وحشرته في فلسطين وجريا علي هذا النسق من الثورة علي الاستكبار والتزييف التوراتي, تواترت أفكار ما يطلق عليهم جماعة المؤرخين الجدد والقاسم المشترك بينهم جميعا, أن إنشاء الكيان الصهيوني في عام1948, قام علي خطأ واضح, وأن كل ما اقيم علي خطأ يستلزم إصلاحه. وهكذا نجد المؤرخ الإسرائيلي شلوموزاند يؤكد كذب المقولة بأن هناك شعبا يهوديا, ورفض كل النصوص التوراتية التي تشير إلي القومية, وأعتبرها مجرد ذرائع لتبرير سياسة ما. ورغم ذلك كله, يأتي يوم لا يعترف فيه إلا بالقوة, من يمتلكها يمتلك له تاريخا, وكذلك يمتلك تاريخ غيره ويحيكه علي هواه, وكما تمليه عليه مصالحه, ولن أجد للتمثيل علي ذلك, أبلغ مما جاء علي لسان مناحيم بيجن: نحن نقاتل, نحن إذن موجودون متأثرا بعبارة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود. لقد آن للعرب والمسلمين, أن يتأملوا ربما في هدوء وروية ما يجري حولهم, وأن يستخلصوا العبر التي تفيدهم في التحسب لما هوآت.