-1- الصوتُ ذو العمامة في التلفاز يبشر بالهلال.. حان وقت الهاتف! أضغطُ أرقامًا عديدة، أُبادلُ محادثيَّ التهنئات ودعوات موجزة مستبشرة.. وأذكر وجهًا طال غيابي عنه شهورًا.. كم تثقل مكالمته على نفسي..! تلحُّ ذاكرتي عليّ برقم الهاتف في تودّد.. وشيخ آخرُ هناك يهنّئنا بتصفيد الشياطين.. تلحُّ عليَّ نفسي بلقطة متكررة لي بعد مكالماته الجافة المؤنبة دومًا بلا سبب.. أنظر إليها في استهانة، بينما تضغط أصابعي الرقم في حماس. -2- يغازلُني تتابع الوميض من كشافات سيارة الأجرة وهي تميل نحوي في إغراء.. يوسوس لي إنهاكي وعقربا الساعة الزاحفان إلى موعد الإفطار.. أهُمُّ بأن ألوّح لها بيدي.. في حركة مباغتة تشتّتُني الذاكرة باستحضار صورة باهتة انطبعت فيها لمحتوى محفظتي مذ فتحتها في الصباح.. تركّز لي العدسة على رقم أكبر ورقة نقدية فيها؛ فأتضاءل.. تعود بي عيناي لأرى وجه السائق ويده تطلان في تساؤل، وقد أصبحت سيارة الأجرة بمحاذاتي تمامًا.. أشيح عنها في صيام! -3- أغلال الغطاء الدفيء تقيّدني عن الاستجابة لتوسلات المنبّه، أُخرج يدًا إلى الصقيع لأصفع صراخه المنغّص.. شيء من اليقظة يتسلل إلى جفنيّ، لكن سرعان ما يجذبهما إلى الأسفل صوتٌ لست أدري مبعثه: "اغفي قليلاً، سيعاود الصراخ عما قليل.." على بعد خطواتٍ يقف أبي هفهافًا مشرقًا، يمسك بصحن في يده، يلوح لي به مبتسمًا في حنوّ: "السحورَ قبل أن يدرككِ الأذان!" أرغب في القيام وراءه، فيجذبني الصوت نفسه: "لن يذهب! سيظل ينتظرك حتى تستيقظي".. أرى الكلام مقنعًا فأدثّر عزمي بالغطاء. يقترب وجه أبي الوضيء أكثر فأرى عن كثب ابتسامته الفَجْرية المعتادة.. أريد لأقول له كم اشتقتُ إليها، ولكن شيئًا يقيد لساني.. "ألن تستيقظي للصلاة؟".. ألمح ساحة مليئة باللُعب لم أنتبه إلى وجودها من قبل، فأركض إليها من فوري: "سألهُو قليلاً هنا"، وسرعان ما أنطلق بالقطار بين الخُضرة والبيوت الريفية الحالمة.. إنها لعبتي المفضلة! يلحق بي صوته إلى مقدمة القطار، جهيرًا رغم عذوبته: "إنها ليست بأيام لعِب!".. ألتفِتُ إليه فأرى طيفه يبتعد.. أقفز من القطار لأعدوَ وراء أبي فيقترب صوته، بينما تعلو صافرة القطار.. أمُدّ يدًا في الصقيع لأخرس الصافرة، فأتبينُ صوتَه نقيًا: "ألن تنهضي للصلاة؟".. لم يفصل بيني وبينه سوى خطواتٍ وأنا أهتف فرِحةً ويدي تكتم الصافرة، وعيناي تتسعان: "بلى! سأنهض..".