11 ألف طالب وطالبة بحقوق سوهاج يؤدون امتحانات الفصل الدراسي الثاني    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    «علام» يصل الكويت للمشاركة في افتتاح مقر «جمعية المحامين»    «تجارية الجيزة»: مد الإعفاءات الجمركية دليل مرونة الإصلاح الاقتصادي    وزير الإسكان يتفقد وحدات «سكن لكل المصريين» ببنى سويف الجديدة    1.1 % ارتفاع في سعر الذهب بالسوق المصرية خلال أسبوع    وزير التنمية المحلية: إنشاء 332 مجمعًا خدميًا في قرى «حياة كريمة»    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    «الإسكان»: اعتماد المخطط التفصيلي ل3 مناطق صناعية في بني سويف    ولي العهد السعودي يطمئن الجميع على صحة خادم الحرمين الشريفين    الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قائد عسكري في "حزب الله" جنوبي لبنان    مكتب الإعلام الحكومي بغزة: الرصيف البحري لا يمكن أن يكون بديلا عن المنافذ البرية والمساعدات لم تصل حتى الآن إلى شمال القطاع والوضع كارثي    كاف يحدد موعد إرسال أسماء الأندية المشاركة في دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية    مجلس الزمالك يُجهز مكافآت الفوز بالكونفدرالية    الخطيب يعطي الضوء الأخضر للتجديد ل علي معلول    بالصور.. ضبط 10 لصوص في القاهرة    «ضربها وأشعل النار بجثمانها».. اعترافات المتهم بقتل عروس المنيا    كشف ملابسات واقعة الاعتداء على أحد الأشخاص وسرقة هاتفه بالقاهرة    تأجيل 12 متهما ب «رشوة وزارة الرى» ل 25 يونيو    نفوق 20 رأس ماشية وماعز في حريق بحظيرة بالمنيا    حج 2024.. خطة تفصيلية بين «الإفتاء» و«السياحة» لتوعية الحجاج | إنفوجراف    إيرادات دور العرض السينمائي.. فيلم "السرب" يحافظ على الصدارة    قبل عرضه بالسينمات.. تفاصيل فيلم «بنقدر ظروفك» ل أحمد الفيشاوي    نقيب القراء: لجنة الإجازة بالإذاعة حريصة على اختيار من هم أهل للقرآن من الكفاءات    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    وزير الصحة يوجه برفع درجة الاستعداد خلال أشهر الصيف لمنع الأمراض المعدية    في يومه العالمي.. 5 فوائد صحية مذهلة للشاي    محافظ المنيا يعلن إجراء 74 ألف عملية جراحية مجانية لجميع فئات المواطنين    للتوعية بحقوقهن وواجباتهن.. «الهجرة» تناقش ضوابط سفر الفتيات المصريات بالدول العربية    لمواليد برج السرطان.. توقعات الأسبوع الأخير من مايو 2024 (التفاصيل)    منها «التعرق الليلي والتعب».. ما هي أعراض سرطان الدم؟    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    وزيرة التضامن تعلن موعد مغادرة أول أفواج حجاج الجمعيات الأهلية    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    الموعد والقناة الناقلة لقمة اليد بين الأهلي والزمالك بدوري كرة اليد    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    استشهاد رئيس قسم الجراحة بمستشفى جنين    تاريخ المسرح والسينما ضمن ورش أهل مصر لأطفال المحافظات الحدودية بالإسكندرية    رئيس جامعة بني سويف: مناقشة أول رسالة ماجستير بكلية علوم الأرض    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    خبيرة تغذية توجه نصائح للتعامل مع الطقس الحار الذي تشهده البلاد (فيديو)    وزير الصحة يوجه بسرعة الانتهاء من تطبيق الميكنة بكافة المنشآت الطبية التابعة للوزارة    وزير العمل يشارك غدا بمؤتمر الحوار الأفريقى- الخليجي بالدوحة    لجان البرلمان تواصل مناقشة مشروع الموازنة.. التموين والطيران والهجرة وهيئة سلامة الغذاء الأبرز    داعية إسلامي: الحقد والحسد أمراض حذرنا منها الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-5-2024    الزمالك: «كاف» هو المسؤول عن التنظيم السيئ لمراسم التتويج بالكونفدرالية    تعرف على سعر السكر والزيت والسلع الأساسية بالأسواق منتصف الأسبوع الثلاثاء 21 مايو 2024    حسام المندوه: الكونفدرالية جاءت للزمالك في وقت صعب.. وهذا ما سيحقق المزيد من الإنجازات    شبانة: مندهش من الأحداث التي صاحبت مراسم تتويج الزمالك    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال قرب مفترق بلدة طمون جنوب مدينة طوباس    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    عمرو أديب عن وفاة الرئيس الإيراني في حادث الطائرة: «إهمال وغباء» (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصيدة قبل أن يتلف العالم.. عن أصابع المرأة الشاعرة في 2016
نشر في صوت البلد يوم 04 - 01 - 2017

صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، مجموعة من الدواوين الشعرية، لأقلام نسوية عربية، بعضها خلال العام 2016. ولعل الخيط "الأوليّ" المشترك، الذي يقود إلى التعاطي مع هذه الأعمال، هو أنها تفتح مجالًا للتحرر، والانزياح خارج السائد الجمالي، والراسخ المجتمعي.
على سبيل المثال، لا الحصر، في ديوانها "كمكان لا يُعَوّل عليه" (منشورات دار "الوطن اليوم"، 2016)، تقترح الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش ألعابًا أخرى بديلة عن لعبة الحياة غير مأمونة العواقب، وهي ألعاب خاسرة بالضرورة، لكنها تبدو محاولات لترك أثر ما، قبل تلف كل شيء، في وجودٍ عنوانه الوحيد "العدم". ولأن الحياة ليست لعبة يمكن ضبطها على وضعية الصفر، في حالة الخسارة، وتشغيلها من جديد، فإنها لا تبدو لعبة مُرحَّبًا بها، فلا أحد يتوقع فوزًا، مهما بلغ من مهارة، أو حرص، أو إقدام. تقول:
"كلعبة سريعة التلف
آهلة بالعطب
نعبرها على عجل
نغادرها على عجل
كحشرجة منذورة لتفاصيل العدم
هي الحياة"
تدرك الشاعرة نوارة لحرش أن لعبتها الأكثر قيمة، أو الأجدر بالتجربة، هي لعبة التحرر من أسر الحياة "الضيقة"، وخلق فضاءات بديلة للمعاني أرحب من كُنه الإقامة على هذه الأرض، والتمسّك بما لا يمكن التمسّك به. فسلالم الحياة، بالمعنى النمطي، ليست إلا وهمًا، ولا يقود صعودها إلا إلى هاوية. تقول:
"أتسلق عمري
عثرة عثرة،
وعند تخوم الخدوش،
أسقط متعثرة بخيبة عالية"
إنه "الضيق" الخانق، الذي لا يترك مجالًا لحراك: "كل هذا الأفق ضيق، وهذا الغيم قحل، والشتاء ضيق، والينابيع يباس، وهذي الرياح أرجوحتي، وهذي المواويل أنيني". ولا ملاذ للذات الشاعرة سوى استبطان جوهر جديد، خارج التأويل الاستهلاكي للمعنى.
تقول: "في طيات المعنى، ثمة ملاذي".
هي شاعرة تحررت بالقصيدة، بقدر ما منحت الحياة فرصة أخيرة، كي تصافح ذاتها الحقيقية، تحت شجر المعاني والكلمات.
وبقطرات من العشق، معسولة ومالحة في آن، مكثفة دائمًا، مسحورة بالضرورة، وببخور روحاني مصّاعد، لا يخلو من رماد الجسد المحترق بغير نار، تحاول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس استحضار ماردها العاصي، الذي لا يحضر، في طقس من طقوس الجنون الكامل. ولا يظل الصمت بطلًا للمشهد، إذ تتشكل الحروف من تلقاء ذاتها خارج المعنى المألوف.
في ديوانها الرابع "على حافة عمر هارب" (دار البدوي، تونس، 2016)، يبدو البيت العاصم من الفتنة أوهن من خيمة، وأخف من غيمة، فكل النوافذ والأبواب، والحوائط أيضًا، مفتوحة على الريح، تلك التي يحرّكها العشق الجارف، في ملكوت ليس فيه سوى دين واحد، تفصح عنه الشاعرة صراحة في تقديم الديوان، مستحضرة عبارة ابن عربي "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهتْ ركائبه".
في ديوان فاطمة الزهراء بنيس، ليس تناقضًا استسلام الأنثى لرهافتها المفرطة، وتسلحها في الوقت نفسه ببارود التمرد، الذي تستطيع بواسطته تفجير كل شيء: ذاتها، الرجل، مفردات العالم. تلك معادلة أولية من معادلات القصيدة، إذ يبدو افتتان الفراشة بألوانها غاية كبرى في حياة تلك الفراشة، لكنه لا يُنسيها أنها خُلقت أيضًا من أجل التحليق، والتجاوز، وربما التغريد أحيانًا بصوت طازج، مقطوف من رحيق الشِّعر:
"كفراشة افتتنتْ بفائها
أتبع ألفي
ولا يُتعبني تحليقي/
هو الشعرُ يعصر أعنابهُ
في عينيَّ
يبثّ رحيقه
في جسدي".
هي شاعرة ولدتْ عريانة منها، بحد تعبيرها، لا تريد أن تشبه حوّاء، ولا أن ترضي آدم، الذي لجناحيه لذة الغرق. للإيحاءات المُشمسة تركت ذاتها، فاستدرجتها إلى عَتَه الصبا، حيث اللعب، والركض، والبوح، والضحك، والبكاء، والتلذّذ، والصعود، والسقوط، والموت، والانبعاث، وهكذا يكون الشعر.
وفي ديوانها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية)، لا تفقد الشاعرة السورية بسمة شيخو القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة.
احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟ تقول الشاعرة بسمة شيخو:
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود. وتسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
وتطرح الشاعرة التونسية هدى الدغاري، في ديوانها "ما يجعل الحب ساقًا على ساق" (نقوش عربية، تونس)، فضاءً داخليًّا للذات، يتسق مع فضاء خارجي لا سقف له، ولا قرار. الطيران هنا له معنيان، الطيران بالأجنحة، وبالأفكار. ألوان الأجنحة ذاتها تتجاوز الحيّز الضيق لقوس قزح، لتقبض المخيلة على سماء مكتملة، فيما تتسع أدغال الروح لتتمشى فيها غابة إثر غابة.
الشعرية، في تجربة هدى الدغاري، بإمكانها تسليم قرص الشمس تفاحًا، ينضج على وهجها. الإشعاع انطلاق دائم، يفيض حرية وتمردًا وجنونًا. حتى مدارات الجسد، تتسع لما يخرج عن التشهي المألوف، إلى منعطف ينتشي فيه العسل نفسه على خريطة الشفتين المعسولتين.
أما الآخر، الذي ربما يكون الرجل، فتنبني العلاقة معه في تجربة هدى الدغاري على ندية واضحة، وتكامل، بما يطلق العنان لبراحٍ جديد متسع، ناتج من تلاقي واشتباك إرادتين، ليتخلق ربيع لا تتهدده مخاطر الذبول.
المشاركة، والإقدام، والإيجابية، والمبادرة، من ملامح تفاعل الذات الأنثوية مع الأخرى الذكورية، فالحب ليس ساقًا واحدة، بل هو ساق على ساق، وفراشات الفرح إن لم يكن لها وجود في الكون، فبالإمكان تخليقها، في لحظة يرتوي فيها النهر. هنا، الانطلاق يخلق وجودًا بأكمله، تقول:
"نهري عطشان،
لانسياب الكوب على شفتيكَ،
لفراشات فرح،
يطوّقن خصري".
صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، مجموعة من الدواوين الشعرية، لأقلام نسوية عربية، بعضها خلال العام 2016. ولعل الخيط "الأوليّ" المشترك، الذي يقود إلى التعاطي مع هذه الأعمال، هو أنها تفتح مجالًا للتحرر، والانزياح خارج السائد الجمالي، والراسخ المجتمعي.
على سبيل المثال، لا الحصر، في ديوانها "كمكان لا يُعَوّل عليه" (منشورات دار "الوطن اليوم"، 2016)، تقترح الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش ألعابًا أخرى بديلة عن لعبة الحياة غير مأمونة العواقب، وهي ألعاب خاسرة بالضرورة، لكنها تبدو محاولات لترك أثر ما، قبل تلف كل شيء، في وجودٍ عنوانه الوحيد "العدم". ولأن الحياة ليست لعبة يمكن ضبطها على وضعية الصفر، في حالة الخسارة، وتشغيلها من جديد، فإنها لا تبدو لعبة مُرحَّبًا بها، فلا أحد يتوقع فوزًا، مهما بلغ من مهارة، أو حرص، أو إقدام. تقول:
"كلعبة سريعة التلف
آهلة بالعطب
نعبرها على عجل
نغادرها على عجل
كحشرجة منذورة لتفاصيل العدم
هي الحياة"
تدرك الشاعرة نوارة لحرش أن لعبتها الأكثر قيمة، أو الأجدر بالتجربة، هي لعبة التحرر من أسر الحياة "الضيقة"، وخلق فضاءات بديلة للمعاني أرحب من كُنه الإقامة على هذه الأرض، والتمسّك بما لا يمكن التمسّك به. فسلالم الحياة، بالمعنى النمطي، ليست إلا وهمًا، ولا يقود صعودها إلا إلى هاوية. تقول:
"أتسلق عمري
عثرة عثرة،
وعند تخوم الخدوش،
أسقط متعثرة بخيبة عالية"
إنه "الضيق" الخانق، الذي لا يترك مجالًا لحراك: "كل هذا الأفق ضيق، وهذا الغيم قحل، والشتاء ضيق، والينابيع يباس، وهذي الرياح أرجوحتي، وهذي المواويل أنيني". ولا ملاذ للذات الشاعرة سوى استبطان جوهر جديد، خارج التأويل الاستهلاكي للمعنى.
تقول: "في طيات المعنى، ثمة ملاذي".
هي شاعرة تحررت بالقصيدة، بقدر ما منحت الحياة فرصة أخيرة، كي تصافح ذاتها الحقيقية، تحت شجر المعاني والكلمات.
وبقطرات من العشق، معسولة ومالحة في آن، مكثفة دائمًا، مسحورة بالضرورة، وببخور روحاني مصّاعد، لا يخلو من رماد الجسد المحترق بغير نار، تحاول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس استحضار ماردها العاصي، الذي لا يحضر، في طقس من طقوس الجنون الكامل. ولا يظل الصمت بطلًا للمشهد، إذ تتشكل الحروف من تلقاء ذاتها خارج المعنى المألوف.
في ديوانها الرابع "على حافة عمر هارب" (دار البدوي، تونس، 2016)، يبدو البيت العاصم من الفتنة أوهن من خيمة، وأخف من غيمة، فكل النوافذ والأبواب، والحوائط أيضًا، مفتوحة على الريح، تلك التي يحرّكها العشق الجارف، في ملكوت ليس فيه سوى دين واحد، تفصح عنه الشاعرة صراحة في تقديم الديوان، مستحضرة عبارة ابن عربي "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهتْ ركائبه".
في ديوان فاطمة الزهراء بنيس، ليس تناقضًا استسلام الأنثى لرهافتها المفرطة، وتسلحها في الوقت نفسه ببارود التمرد، الذي تستطيع بواسطته تفجير كل شيء: ذاتها، الرجل، مفردات العالم. تلك معادلة أولية من معادلات القصيدة، إذ يبدو افتتان الفراشة بألوانها غاية كبرى في حياة تلك الفراشة، لكنه لا يُنسيها أنها خُلقت أيضًا من أجل التحليق، والتجاوز، وربما التغريد أحيانًا بصوت طازج، مقطوف من رحيق الشِّعر:
"كفراشة افتتنتْ بفائها
أتبع ألفي
ولا يُتعبني تحليقي/
هو الشعرُ يعصر أعنابهُ
في عينيَّ
يبثّ رحيقه
في جسدي".
هي شاعرة ولدتْ عريانة منها، بحد تعبيرها، لا تريد أن تشبه حوّاء، ولا أن ترضي آدم، الذي لجناحيه لذة الغرق. للإيحاءات المُشمسة تركت ذاتها، فاستدرجتها إلى عَتَه الصبا، حيث اللعب، والركض، والبوح، والضحك، والبكاء، والتلذّذ، والصعود، والسقوط، والموت، والانبعاث، وهكذا يكون الشعر.
وفي ديوانها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية)، لا تفقد الشاعرة السورية بسمة شيخو القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة.
احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟ تقول الشاعرة بسمة شيخو:
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود. وتسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
وتطرح الشاعرة التونسية هدى الدغاري، في ديوانها "ما يجعل الحب ساقًا على ساق" (نقوش عربية، تونس)، فضاءً داخليًّا للذات، يتسق مع فضاء خارجي لا سقف له، ولا قرار. الطيران هنا له معنيان، الطيران بالأجنحة، وبالأفكار. ألوان الأجنحة ذاتها تتجاوز الحيّز الضيق لقوس قزح، لتقبض المخيلة على سماء مكتملة، فيما تتسع أدغال الروح لتتمشى فيها غابة إثر غابة.
الشعرية، في تجربة هدى الدغاري، بإمكانها تسليم قرص الشمس تفاحًا، ينضج على وهجها. الإشعاع انطلاق دائم، يفيض حرية وتمردًا وجنونًا. حتى مدارات الجسد، تتسع لما يخرج عن التشهي المألوف، إلى منعطف ينتشي فيه العسل نفسه على خريطة الشفتين المعسولتين.
أما الآخر، الذي ربما يكون الرجل، فتنبني العلاقة معه في تجربة هدى الدغاري على ندية واضحة، وتكامل، بما يطلق العنان لبراحٍ جديد متسع، ناتج من تلاقي واشتباك إرادتين، ليتخلق ربيع لا تتهدده مخاطر الذبول.
المشاركة، والإقدام، والإيجابية، والمبادرة، من ملامح تفاعل الذات الأنثوية مع الأخرى الذكورية، فالحب ليس ساقًا واحدة، بل هو ساق على ساق، وفراشات الفرح إن لم يكن لها وجود في الكون، فبالإمكان تخليقها، في لحظة يرتوي فيها النهر. هنا، الانطلاق يخلق وجودًا بأكمله، تقول:
"نهري عطشان،
لانسياب الكوب على شفتيكَ،
لفراشات فرح،
يطوّقن خصري".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.