تمر اليوم الذكرى المائة و ثلاثة لميلاد قطب الصوفية و إمام الصوفيين في القرن العشرين الدكتور عبد الحليم محمود الذي تولىى وزارة الأوقاف و مشيخة الأزهر و كان فيلسوفًا كبيرًا تعمق في الفلسفة أثناء دراسته بباريس ثم تحول من الفلسفة إلى الصوفية بعد أن تعمق في نورانية الإيمان و التي أدخلته في رحاب الأريحية و الروحانية و أثناء تلك الرحلة كان للإمام عبد الحليم محمود خطوات هامة ساهمت في تأسيسه للوصول إلى تلك المكانة فقد كان أديبًا و مترجمًا و كاتبًا أثرى المكتبة العربية و الإسلامية بما يجعلنا أن نقول بثقة و تأكيد أن ما خلفه عبد الحليم محمود علم ينتفع به للأمتين العربية و الإسلامية. ولد الإمام عبد الحليم محمود يوم 10 مايو من عام 1910 بعزبة أبو أحمد بقرية السلام ببلبيس التابعة لمحافظة الشرقية و نشأ في أسرة كريمة عُرفت بالتقوى و الصلاح و كان أبوه ممن تعلموا بالأزهر لكنه لم يكمل تعليمه مما أدى إلى أن عوض الأب ما لم يكمله بتعليم إبنه بالأزهر الشريف بعد أن حفظ القرآن و هو في العاشرة من عمره ثم ألتحق بالأزهر عام 1923 و حصل على العالمية عام 1932 ثم سافر إلى باريس على نفقته الخاصة لإستكمال تعليمه و حصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية عن رسالته عن (الحارث المحاسبي) عام 1940 و عند عودته لمصر عمل مدرسًا لعلم النفس بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر و في عام 1964 عين الإمام الجليل عميدًا لكلية أصول الدين و عضوًا ثم أمينًا لمجمع البحوث الإسلامية ثم وكيلاً للأزهر الشريف و في عام 1970 عُين الإمام عبد الحليم محمود وزيرًا للأوقاف. كان للشيخ عبد الحليم محمود نظرات إصلاحية للدين بوجه عام و لمشيخة الأزهر بوجه خاص و كان دائمًا في حالة من الإستعداد و التأهب للرد على الشيوعيين الذين حاولوا الخلط بين (أبو ذر الغفاري) و الشيوعية و شرعنة المباديء الشيوعية عبر هذا الصحابي الجليل لإستقطاب أكبر كم من الناس في ظل إنتشار الجماعات الإسلامية و التكفيرية التي أطلقها الرئيس أنور السادات لضرب الشيوعيين و الناصريين و هنا كان دور الإمام الجليل في تفادي خلط الأوراق ما بين مبدأ السماء و مبدأ الأرض ليخرج مؤلفه الهام ذو الصفحات القليلة و الأفكا الغزيرة (أباذر و الشيوعية) ليحمي المسلمون من الوقوع في شرك خلط الأوراق و شرعنة الأخطاء. في عام 1973 قرر الرئيس أنور السادات تعيين الإمام عبد الحليم محمود شيخًا للأزهر في وقت الإعداد لحرب أكتوبر المجيدة و كان الإمام عبد الحليم محمود أكثر الدعاة زيارةً للجبهة من أجل شحذ همم الجنود بالصبر و الإيمان و كان الإمام عبد الحليم محمود عاصر القانون الذي صدر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961 و الذي توسع في نشر التعليم المدني بجامعة الأزهر و ألغى جماعة كبار العلماء و قلص من سلطات شيخ الأزهر و أعطى الزمام في يد وزير الأوقاف و شئون الأزهر و كان هذا في وقت تولي الشيخ محمود شلتوت لمشيخة الأزهر و تولي تلميذه الشيخ محمد البهي وزارة الأوقاف و شئون الأزهر مما أحدث صراعًا مريرًا بين الأستاذ و التلميذ و حاول الشيخ محمود شلتوت إستعادة سلطاته المسلوبة و لكن لم تنجح المحاولات و كان وقتها الشيخ عبد الحليم محمود يرتدي الزي المدني البدلة و رباط العنق و تحول الشيخ إلى الزي الأزهري بعد سماعه لتهكم عبد الناصر لعلماء الأزهر وقت إلغائه لجماعة كبار العلماء قائلاً: (إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه). (الإمام عبد الحليم محمود مع الأديب يوسف السباعي) هنا قرر الشيخ عبد الحليم محمود أن يرتدي الزي الأزهري كرد عملي على تهكم عبد الناصر للدعاة و دعا كل زملائه للتمسك بزي الأزهر و هنا واجه الإمام ما واجهه أستاذه الشيخ شلتوت من تقلص سلطات الأزهر في أغسطس من عام 1974 حينما قرر الرئيس السادات بإصدار قرار جمهوري رقم (1098) بتنظيم شئون الأزهر و تحديد مسئولياته كما حدث مع شلتوت و جعل الأزهر تابعًا لوزارة الأوقاف و شئون الأزهر مما يقلص مهام مشيخة الأزهر و دخول بارجة الدين في صراع كبير بين الأوقاف و الأزهر مما جعل الإمام يتقدم بإستقالته و يتغيب عن مكتبه و يرفض تقاضي راتبه و طلب تسوية معاشه و أحدث قرار إستقالة الشيخ عبد الحليم محمود دويًا هائلاً في مصر مما جعل أحد المحامين يرفع دعوة حسبة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية و وزير الأوقاف لوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية. قام الرئيس السادات بإلغاء هذا القرار و جاء قرارًا ينص على: (شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر. تضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه في الأسبقية قبل الوزراء مباشرة). (حلقة تليفزيونية عن العلم في الإسلام بالمغرب في حضور الملك حسن الثاني) إنتهت الأزمة و عاد الشيخ عبد الحليم محمود لمنصبه مواجهًا العديد من التحديات و هو يحمل على عاتقه مسئولية دين الأمة أثناء إنتشار جماعات التكفير و الهجرة و إنتشار الإلحاد كنوع من الرد على تلك الجماعات ليكون هو قائد الوسطية بين متناقضين. في وقت ظهر فيه الشيخ محمد متولي الشعراوي و العالم الجليل مصطفى محمود و كان لعبد الحليم محمود دورًا بارزًا في إحياء جامع عمرو بن العاص و هو وزيرًا للأوقاف ليعيد الشيخ محمد الغزالي للخطابة ليكون ضمن أئمة و دعاة الوسطية ضد المتناقضين. (مقطع إذاعي للإمام عبد الحليم محمود عن الثقة في الله) واجه الشيخ عبد الحليم محمود قانون الأحوال الشخصية عام 1977 الذي حاول الظهور للنور من خلال وزيرة الشئون الاجتماعية (عائشة راتب) حيث أرادت إصدار هذا القانون دون الرجوع إلى الأزهر و الذي يقيد من حقوق الزوج على خلاف ما أقرته الشريعة الإسلامية و هنا أصدر الشيخ عبد الحليم محمود بيانًا رادعًا يحذر فيه الخروج عن تعاليم الإسلام مما يساهم في تفشي الرذائل و الموبقات و الحرية بمعانيها الخاطئة لأن الإسلام أقر بأن الحرية مسئولية دون الإضرار بحقوق الآخرين و هنا تجنب مجلس الشعب و الصحف و المؤسسات المختلفة من خروج هذا البيان على الملأ مما يصيب البلاد بجدل كبير يؤدي إلى التقسيم و اجتمعت الحكومة لتعلن عن أنه لا نية في تعديل قانون الأحوال الشخصية ليكون الإمام بحق حائطًا رادعًا لكل من يحاول الجدل و التقسيم بين الناس عبر دين الله. (برنامج من أقوال الرسول) كان للشيخ عبد الحليم محمود رأيًا رادعًا تجاه المحكمة العسكرية لأخذ حكم في قضية جماعة التكفير و الهجرة لأنها غير مؤهلة لتلك النوعيات من القضايا و هاجمت المحكمة العسكرية علماء الأزهر على هذا البيان من خلال هذا الكلام: (وأسفاه على إسلام ينزوي فيه رجال الدين في كل ركن هاربين متهربين من أداء رسالتهم أو الإفصاح عن رأيهم أو إبداء حكم الدين فيما يعرض عليهم من أمور، فلا هم أدوا رسالتهم وأعلنوا كلمة الحق، ولا هم تركوا أماكنهم لمن يقدر على أداء الرسالة). هذا الكلام جعل الإمام عبد الحليم محمود يرد بأن المحكمة العسكرية لم تستعين بالأزهر في تلك القضية و لم تطلع الأزهر على أوراقها مما أكد على عدم صواب الأحكام التي إتخذتها المحكمة العسكرية. كان الشيخ محمد متولي الشعراوي وزيرًا للأوقاف من عام 1976 حتى 1978 و كان يرفض رفضًا باتًا أن يفتش على شيخ الأزهر عبد الحليم محمود قائلاً جملته الشهيرة: (كيف أفتش أو أعدل على أستاذي و معلمي؟!) كان الشيخ عبد الحليم محمود له رايًا قاطعًا حول تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال الرسالة التي بعثها لسيد مرعي مساعد رئيس الجمهورية و ممدوح سالم رئيس الوزراء قائلاً: (قد آن الأوان لإرواء الأشواق الظامئة في القلوب إلى وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا يسرا وبخوفنا أمنا). ساهم الإمام عبد الحليم محمود في تكوين لجنة ب(مجمع البحوث الإسلامية) لتقنين الشريعة الإسلامية في صيغة مواد قانونية تسهل استخراج الأحكام الفقهية على غرار القوانين الوضعية، فأتمت اللجنة تقنين القانون المدني كله في كل مذهب من المذاهب الأربعة. كان الإمام عبد الحليم محمود من أقطاب الصوفية و أكثر من كتب عن الصوفية و المتصوفين إلى جانب ترجمته لرواية (آلالام فرتر) للأديب الألماني (جوته) و هو في باريس عن ترجمة فرنسية إلى جانب صداقته الوطيدة بالأديب الكبير (يوسف السباعي) مما ينم عن إمام يتسم بالثقافة الموسوعية إلى جانب إتقانه للغتين الإنجليزية و الفرنسية و له كتبًا عن الفلسفة و الصوفية بالعربية و الفرنسية و من مؤلفاته: 1- أبا ذر و البشيوعية. 2- محمد صلى الله عليه وسلم. 3- قصص الأنبياء. 4- الليث بن سعد إمام أهل مصر. 5- وازن الأرواح. 6- منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع. 7- قضية التصوف (المنقذ من الضلال). 8- مقالات في الإسلام و الشيوعية. 9- الإسراء و المعراج. توفي الشيخ عبد الحليم محمود يوم 17 أكتوبر من عام 1978.