ولد فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود- رحمه الله- فى 1910م بقرية أبوالحمد مركز بلبيس بمحافظة الشرقية، وكان والده الشيخ محمود على أحمد أحد قضاة المنطقة فى ذلك الوقت من تلامذة الإمام محمد عبده فكان يعد ابنه الأكبر الإمام عبد الحليم محمود الإعداد المتواصل ليكون من أبناء الأزهر النجباء فحفظ القرآن الكريم فى سن مبكرة، ثم التحق بالأزهر سنة 1923 م وحصل على العالمية سنة 1932 م. وتقول شقيقته -رحمها الله- إنه منذ أن كان طفلا كان معروفا أنه لا يكذب قط حتى فى معرض الدعابة وأنه لم يقسم بالله قط وكذا لم يقسم بغير الله بطبيعة الحال. وقد لا يعلم كثيرون أن شيخ الإسلام الإمام عبد الحليم محمود يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون أشهر جامعات أوروبا فى العصر الحديث وبذلك يتضح كيف جمع هذا العالم الشامخ بين أصالة التعليم الأزهرى الذى ارتقى مراحله حتى درجة العالمية وبين حداثة التعليم الغربى الذى حصل فيه على درجة الليسانس والماجستير والدكتوراه. وبعد عودته من فرنسا عمل مدرساً بكليات الأزهر، ثم عميداً لكلية أصول الدين سنة 1964 م، وعضواً ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية، ثم عُين وكيلاً للأزهر سنة 1970 م فوزيراً للأوقاف وشئون الأزهر حتى مارس 1973م. كان للإمام جهد ملحوظ ومحمود أثناء أمانته لمجمع البحوث الإسلامية ومن أمثلة هذا الجهد تقنين الشريعة وإنشاء سلسلة البحوث ووضع قاموس مفهرس، والتصدى بقوة للمحاولات الإسرائيلية فى تحريف بعض آيات القرآن ووضع موسوعة مفهرسة للسنة النبوية. كما أسس لجنة المسجد الأقصى لجمع كل ما كتب من أبحاث حول فلسطين ولجنة أخرى لإحياء التراث الإسلامى. وأثناء فترة توليه منصب وزير الأوقاف (1970 - 1973م) اهتم بالمساجد فأنشأ الكثير منها، وضم عدداً من المساجد الأهلية للأوقاف، وسعى لترميم المساجد التاريخية مثل «جامع عمرو بن العاص»، وأسند الخطبة فيه إلى الشيخ «محمد الغزالى»- رحمه الله- كما أنشأ فصولاً للتقوية بالمساجد يستفيد بها طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية وسعى من خلال ذلك لربطهم بشعائر الدين مثل الصلاة، كما استرد أوقاف الوزارة من الإصلاح الزراعى وأنشأ هيئة كبرى لإدارتها. وقد بدت ملامح الإصلاح واضحة فى جهود الشيخ «عبد الحليم محمود» بعد توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية الذى حل محل جماعة كبار العلماء، فبدأ بتكوين الجهاز الفنى والإدارى للمجمع من كبار علماء الأزهر، وجهزه بمكتبة علمية أثراها بآلاف الكتب والأبحاث فى مختلف المجالات، كما استطاع تخصيص قطعة أرض فى مدينة نصر لبناء المجمع بإداراته المختلفة، وأيضاً نجح فى تخصيص قطعة أرض مجاورة للأزهر لتقام عليها مكتبة الأزهر الكبرى. كذلك اشتدت الحاجة فى ذلك الوقت إلى إقامة قاعدة عريضة من المعاهد الدينية التى تقلص عددها وعجزت عن إمداد جامعة الأزهر- بكلياتها العشرين آنذاك- بأعداد كافية من الطلاب، وهو الأمر الذى جعل جامعة الأزهر تستقبل أعداداً كبيرة من حملة الثانوية العامة بالمدارس، وهم لا يتمتعون بثقافة دينية وعربية تؤهلهم للالتحاق بجامعة الأزهر مما أثر على مستوى الخريجين فيما بعد. أدرك الشيخ خطورة هذا الموقف فجاب القرى والمدن يدعو الناس للتبرع لإنشاء المعاهد الدينية، فلبى الناس دعوته، ولم تكن ميزانية الأزهر تسمح بتحقيق هذا التوسع، فاستطاع بفضل الله ثم الجهود الذاتية من الأهالى إنشاء المزيد من المعاهد التى زادت فى عهده على نحو لم يعرفه الأزهر من قبل.كل هذا خلال عام واحد أمضاه فى الوزارة. وفى أبريل 1973م تولى الإمام الأكبر عبدالحليم محمود مشيخة الأزهر إثر خروجه من وزارة الأوقاف فى فترة حرجة من تاريخ مصر بعد مرور أكثر من 10 سنوات على صدور قانون الأزهر عام 1961م الذى نص على التوسع فى التعليم المدنى على حساب التعليم الدينى، وألغى جماعة كبار العلماء، وحد من سلطات شيخ الأزهر، وأعطى سلطة الإدارة لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، وفشلت جهود شيخ الأزهر حينها الشيخ «محمود شلتوت» فى استرداد سلطاته، وإصلاح تلك الأوضاع المقلوبة .. وكأنما موقعه كشيخ للأزهر ادخره له القدر فرغم أنه رجل لين الجانب فإنه خاض معركة ضارية فى سبيل الدفاع عن استقلال الأزهر فى مواجهة رئيس الدولة نفسه. والحكاية أنه عندما تولى المنصب فوجئ بصدور قرار رئيس الجمهورية فى 7 يوليو 1974م يكاد يجرد شيخ الأزهر من اختصاصاته ليمنحها لوزير الأوقاف فما كان من الإمام إلا أن بادر باعتراضه الذى جاء فى شكل استقالة تقدم بها. وروجع الشيخ فى الاستقالة ولكنه أصر وتدخل نفر من الحكماء كوسطاء ولكنه ظل على إصراره، وأحدثت استقالته هزة فى العالم الإسلامى، فما كان من السادات إلا أن رضخ وأصدر قرارا «يعيد الأمور إلى نصابها». كما واجه الإمام قانون الأحوال الشخصية حينما كانت عائشة راتب وزيرة للشئون الاجتماعية ببيان قوى وقاطع. ولما يتمتع به الإمام من مكانة رفيعة فى العالم الإسلامى، حيث كان يرى المسلمين والعرب إخوة، فقد كان له جهد ذو طابع سياسى فى هذا الاتجاه فقد أصدر بيانا بشأن الأحداث الدامية فى لبنان دعا فيه الأطراف المتناحرة لحقن الدماء وأرسل برقية لأمين عام جامعة الدول العربية يناشده فيها تكثيف الجهود فى هذا الاتجاه كما فعل الأمر نفسه فى الأزمة المغربية الجزائرية بخصوص الصحراء الغربية وأرسل برقيات لعاهل المغرب ورئيس الجزائر وثالثة للسادات يناشده فيها التدخل بوساطة مصرية لإنهاء النزاع ورابعة لعاهل السعودية للتدخل. وكان يرى أن تحرير المسلمين لا يكون كاملا إلا بتحرير أراضيهم وتحرير عقولهم وفكرهم، فلابد أن تتحرر الأرض من الأعداء والاستعمار، ولابد أن يتحرر العقل والفكر من تيارات التحلل والإباحية ومن الغزو الفكرى ومما تطفح به بعض الكتب والمؤلفات من مقالات مدمرة، تنفث سمومها على الإسلام والمسلمين. (لايزال هناك الكثير مما يقال ويرصد من مواقف جريئة وشجاعة للإمام الجليل الشيخ عبد الحليم محمود أدخرها للأسبوع القادم).