طالب مجموعة من كبار علماء الأزهر وائتلاف شباب الثورة وحركة 6 إبريل ومشايخ الطرق الصوفية باستقلال الأزهر الشريف مالياً وإدارياً عن سلطة الدولة، وعودة هيئة كبار العلماء. وقال الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر الأسبق خلال حديثه فى الملتقى الذى عقد فى ذكرى رحيل الإمام الراحل عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق بقاعة الإمام محمد عبده، إن شباب الثورة أصروا على إحياء ذكرى الشيخ عبد الحليم محمود لمواقفه المشرفة فى الدفاع عن استقلال الأزهر، ولأنه لم يكن يجامل الحاكم، فضلاً عن مطالبه بتعيين شيخ الأزهر على درجة رئيس وزراء وليس بدرجة وزير. من جانبه، قال الدكتور طه حبيش رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين، "إن الدعاة حينما يتركون الأنظمة الفاسدة ولا يتعلقون بها، يرجع لهم كرامتهم وتكون قراراتهم وفتواهم من ضمائرهم وليس من إملاءات الحكومات عليهم، لافتاً إلى أن الأزهر كان مستقلا فى عهد الشيخ عبد الحليم صاحب المواقف المشهورة، خاصة عندما استقال من مشيخة الأزهر عام 73 احتجاجاً على قرار السادات بإنشاء وزارة الأوقاف التى أخذت ما تبقى من استقلال الأزهر". وقال الدكتور بكر زكى عميد كلية أصول الدين: "إن الشيخ الراحل قال إن الله وهب مصر الأزهر كما وهبها النيل"، مضيفاً "يجب إعادة الهيبة والاستقلال للأزهر الشريف". بدوره أكد الدكتور محمد حامد أستاذ الفقه السياسى "أن وثيقة شيخ الأزهر أحمد الطيب عن مدنية الدولة تؤكد المنهج الوسطى للأزهر الشريف". حضر الملتقى لفيف من كبار علماء الأزهر منهم الشيخ أسامة الأزهرى وممثلون عن حركة 25 يناير واتحاد شباب الثورة وحركة 6 إبريل وقوى الشباب المستقل والاتحاد العالمى لعلماء الأزهر ولفيف من الدعاة. والشيخ عبد الحليم محمود (1910 - 1978) عالم أزهرى ووزير مصرى سابق وشيخ الأزهر فى الفترة بين عامى 1973 و1978. سيرته الذاتية ولد فى 2 جمادى الأولى 1328ه الموافق 12 مايو 1910م، بقرية أبو أحمد مركز بلبيس بمحافظة الشرقية. نشأ فى أسرة كريمة مشهورة بالصلاح والتقوى، وكان أبوه ممن تعلم بالأزهر، لكنه لم يكمل دراسته فيه. حفظ القرآن الكريم ثم التحق بالأزهر سنة 1923م حصل على العالمية سنة 1351 ه 1932م ثم سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه العالى، حيث حصل على الدكتوراه فى الفلسفة الإسلامية عن الحارث المحاسبى سنة 1359ه 1940م. بعد عودته عمل مدرساً لعلم النفس بكلية اللغة العربية بكليات الأزهر ثم عميداً لكلية أصول الدين سنة 1384ه 1964م وعضواًً ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية، فنهض به وأعاد تنظيمه عين وكيلاً للأزهر سنة 1390 ه 1970م فوزيراً للاوقاف وشئون الأزهر. شياخته للأزهر تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر فى ظروف بالغة الحرج، وذلك بعد مرور أكثر من 10 سنوات على صدور قانون الأزهر سنة 1381ه 1961م الذى توسع فى التعليم المدنى ومعاهده العليا، وألغى جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده فى إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، وهو الأمر الذى عجّل بصدام عنيف بين محمود شلتوت شيخ الأزهر، الذى صدر القانون فى عهده وبين تلميذه الدكتور محمد البهى الذى كان يتولى منصب وزارة الأوقاف، وفشلت محاولات الشيخ الجليل فى استرداد سلطاته، وإصلاح الأوضاع المقلوبة. لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقع للشيخ عبد الحليم محمود أن يحقق هذا النجاح الذى حققه فى إدارة الأزهر، فيسترد للمشيخة مكانتها ومهابتها، ويتوسع فى إنشاء المعاهد الأزهرية على نحو غير مسبوق، ويجعل للأزهر رأياً وبياناً فى كل موقف وقضية، حيث أعانه على ذلك صفاء نفس ونفاذ روح، واستشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، وثقة فى الله عالية، جعلته يتخطى العقبات ويذلل الصعاب. للشيخ أكثر من 60 مؤلفاً فى التصوف والفلسفة، بعضها بالفرنسية، من أشهر كتبه: أوروبا والإسلام، والتوحيد الخالص أو الإسلام والعقل، وأسرار العبادات فى الإسلام، والتفكير الفلسفى فى الإسلام، والقرآن والنبى، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلى. استعادة هيبة الأزهر وشيخه صدر قرار تعيين الشيخ عبد الحليم محمود شيخا للأزهر فى 22 صفر 1393ه 27 مارس 1973م، وكان هذا هو المكان الطبيعى الذى أعدته المقادير له، وما كاد الشيخ يمارس أعباء منصبه وينهض بدوره على خير وجه حتى بوغت بصدور قرار جديد من رئيس الجمهورية فى 17 جمادى الآخرة 1394ه 7 يوليو 1974م يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقى له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، وما كان من الشيخ إلا أن قدم استقالته لرئيس الجمهورية على الفور، معتبرا أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية فى مصر والعالم العربى والإسلامي. روجع الإمام فى أمر استقالته، وتدخل الحكماء لإثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر على استقالته، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض تناول راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه الاستقالة دوياً هائلاً فى مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامى، وتقدم أحد المحامين الغيورين برفع دعوى حسبة أمام محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف، طالباً وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية. إزاء هذا الموقف الملتهب اضطر أنور السادات إلى معاودة النظر فى قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلى نصابه، جاء فيه: شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى فى كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه فى كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية فى الأزهر. تضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه فى الأسبقية قبل الوزراء مباشرة، وانتهت الأزمة وعاد الشيخ إلى منصبه ليواصل جهاده. وجدير بالذكر أن قرارا جمهوريا صدر بعد وفاة الشيخ بمساواة منصب شيخ الأزهر بمنصب رئيس الوزراء. مسئولية شيخ الأزهر كان الشيخ عبد الحليم يدرك خطورة منصبه، وأنه مسئول عن القضايا التى تتعلق بالمسلمين، وأنه لا ينتظر من أحد توجيها إلى النظر فى بعض القضايا وغض النظر عن بعضها، فكان للأزهر فى عهده رأى ومقال فى كل قضية وموضوع يتعلق بأمر المسلمين، فتصدى لقانون الأحوال الشخصية الذى حاولت الدكتورة عائشة راتب إصداره دون الرجوع إلى الأزهر، وحرصت على إقراره من مجلس الشعب على وجه السرعة، وكان هذا القانون قد تضمن قيوداً على حقوق الزوج على خلاف ما قررته الشريعة الإسلامية. ولما علم الإمام الأكبر بهذا القانون أصدر بيانا قويا حذر فيه من الخروج على تعاليم الإسلام، وأرسله إلى جميع المسئولين وأعضاء مجلس الشعب وإلى الصحف، ولم ينتظر صدور القانون بل وقف فى وجهه قبل أن يرى النور، لكن بيان الشيخ تآمرت عليه قوى الظلام فصدرت التعليمات إلى الصحف بالامتناع عن نشره، واجتمعت الحكومة للنظر فى بيان الشيخ عبد الحليم محمود، ولم تجد مفراً من الإعلان عن أنه ليس هناك تفكير على الإطلاق فى تعديل قانون الأحوال الشخصية، وبذلك نجح الإمام فى قتل القانون فى مهده. الكتب الدينية المشتركة اقترح البابا شنودة بطريرك الأقباط فى مصر تأليف كتب دينية مشتركة ليدرسها الطلبة المسلمون والمسيحيون جميعاً فى المدارس، مبرراً ذلك بتعميق الوحدة الوطنية بين عنصرى الأمة، وتقوية الروابط بينهما. لقى هذا الاقتراح قبولاً بين كبار المسئولين، وزار الدكتور مصطفى حلمى وزير التربية والتعليم آنذاك الإمام الأكبر ليستطلع رأيه فى هذا الاقتراح، لكن الشيخ الغيور واجه الوزير بغضبة شديدة قائلاً له: من آذنك بهذا، ومن الذى طلبه منك، إن مثل هذه الفكرة إذا طلبت فإنما توجه إلينا من كبار المسئولين مباشرة، ويوم يطلب منا مثل هذه الكتب فلن يكون ردى عليها سوى الاستقالة. ما كان من الوزير إلا أن استرضى الشيخ الغاضب وقدم اعتذاراً له قائلاً له: إننى ما جئت إلا لأستطلع رأى فضيلتكم وأعرف حكم الدين، ويوم أن تقدم استقالتك لهذا السبب فسأقدم استقالتى بعدك مباشرة. التوسع فى إنشاء المعاهد الأزهرية تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر فى وقت اشتدت فيه الحاجة لإقامة قاعدة عريضة من المعاهد الدينية التى تقلص عددها وعجزت عن إمداد جامعة الأزهر بكلياتها العشرين بأعداد كافية من الطلاب، وهو الأمر الذى جعل جامعة الأزهر تستقبل أعداداً كبيرة من حملة الثانوية العامة بالمدارس، وهم لا يتزودون بثقافة دينية وعربية تؤهلهم أن يكونوا حماة الإسلام. أدرك الشيخ خطورة هذا الموقف فجاب القرى والمدن يدعو الناس للتبرع لإنشاء المعاهد الدينية، فلبى الناس دعوته وأقبلوا عليه متبرعين، ولم تكن ميزانية الأزهر تسمح بتحقيق آمال الشيخ فى التوسع فى التعليم الأزهرى، فكفاه الناس مئونة ذلك، وكان لصلاته العميقة بالحكام وذوى النفوذ والتأثير وثقة الناس فيه أثر فى تحقيق ما يصبو إليه، فزادت المعاهد فى عهده على نحو لم يعرفه الأزهر من قبل. وفاة الشيخ كانت حياة الشيخ عبد الحليم محمود جهادا متصلا وإحساسا بالمسئولية التى يحملها على عاتقه، فلم يركن إلى اللقب الكبير الذى يحمله، أو إلى جلال المنصب الذى يتقلده، فتحرك فى كل مكان يرجو فيه خدمة الإسلام والمسلمين، وأحس الناس فيه بقوة الإيمان وصدق النفس، فكان يقابل مقابلة الملوك والرؤساء، بل أكثر من ذلك، حيث كانت الجموع المحتشدة التى هرعت لاستقباله فى الهند وباكستان وماليزيا وإيران والمغرب وغيرها تخرج عن حب وطواعية لا عن سوق وحشد وإرهاب. فى ظل هذا النشاط الجم والرحلات المتتابعة لتفقد المسلمين شعر بآلام شديدة بعد عودته من الأراضى المقدسة فأجرى عملية جراحية لقى الله بعدها فى صبيحة يوم الثلاثاء الموافق (15 ذو القعدة 1397 ه = 17 أكتوبر 1978م) تاركا ذكرى طيبة ونموذجا لما يجب أن يكون عليه شيخ الأزهر.