بقلم مصطفى الغزاوي فرق جوهري بين التغيير والإصلاح، التغيير انقلاب على القوى المكونة لسلطة المجتمع وتجريدها من السلطة والاستيلاء عليها، والتوجه لبناء المجتمع بانحياز جديد، وهنا يكون الواجب الرئيسي لعملية التغيير هو إزالة كل القوانين الحاكمة لصالح النظام السابق، والذي حدد بها أطر المجتمع لصالحه، وبالأساس منها الدستور، والتحول إلى دستور جديد يعبر عن الحالة التي انقلب إليها المجتمع والقوى صاحبة المصلحة في التغيير. أما الإصلاح فهو مجرد تغيير في طبيعة العناصر المكونة للآليات في ذات المجتمع بغرض "التحسين" أو "التجميل" وليس "التغيير". التغيير بالثورة لا تحده لجاجة القول والموقف، بل هو أقرب إلى الإعصار يقتلع القديم من جذوره ولا يتعامل معه بيد رخوة ولا بقلب حنون، تحت دعاوى الحقوق فيما يسمى بالمحاكمة العادلة، ولا يتساوى في نظر الثورة الثائر والمناهض للثورة، ولا يمكن أن تكون الإجراءات الجنائية في المحاكم هي سبيل إطلاق سراح أعداء التغيير، ويتلقفهم أصحاب المصالح في النظام السابق بالاحتفالات، فوجودهم مطلقي السراح في المجتمع، يعني أن عصابات ما قبل الثورة سيمتد بها العمر بعض الوقت. والثورة لا تتحول إلى حكومة وأحاديث على شاشات التلفزيون والصحف إلا بعد استقرار عملية التطهير ووضوح معالم الجديد المنشود، ولا تقبل الثورة، بمنطق أنها ثورة، لا تقبل لطم الخدود وشق الجيوب من حولها، بحثا عن استقرار مزعوم يعنون به عودة الأمور إلى ما كانت عليه، والثورة لا تفوض أحدا من خارجها للولاية على أمرها، وإن فوضت فهي لا تمنح من فوضته حق التنازل عن التفويض لآخرين من مكونات النظام الذي جرى الانقلاب عليه. والثورة تنتحر إن اعتقدت أنها تحولت إلى أداء سياسي قبل استكمال مهامها وتحقيق أهدافها، هي موجة هدم، وتطهير وتسوية ثم بناء. تجاوزت الثورة بمظاهرات الملايين من أبناء الشعب كل المتوقع، أو خيال المشاركين أنفسهم وعلى حد تعبير واحدة ممن شاركن في التظاهرات قالت " أنا لم أعاصر ثورات سابقة ولم يكن ونحن ذاهبون إلى المسيرات وقبل أن نعلم حتى أنها ستتجه إلى التحرير لم نتخيل أنها ستأتي بهذه الثمار لذلك فإن حالة التخبط الحالية تعتصر قلبي فتارة تتحول الثورة بما تعني وما تحمل مجرد لفظ تلوكه الألسن على الفضائيات ويتبارى الضيوف في الإدلاء بدلوهم في مشهد بالنسبة لي حزين..... لأنهم يفرغونها من قدسيتها... وكأنني أرغب أن أقول... فليصمت الجميع في محراب الثورة ولتتحدث شرعيتها". واقتطع كل على حسب وعيه وإدراكه هدفا أو جزءا من هدف أو حتى كما قال صديق "مشوارا" من "مهمة". وإذا انجرف العديد وراء ترشيحات للرئاسة وتركوا أمر بناء الدولة دون مشاركة، فهناك بعض آخر اتجه للبحث عن ترشيحات المجالس النيابية، وانطلقت قاطرة الإشهار للتنظيمات الدينية من حزب للإخوان وحزب يدعو إليه السلفيون وثالث يسعى إليه الجهاد، وصار ديدن التيارات الدينية مجرد البحث في عملية الوجود والسيطرة. وأصبح المطلوب جهدا شديدا للحيلولة دون نجاح محاولات القرصنة الجارية الآن لاختطاف الثورة. هكذا انتقلت الثورة من حالة الحشود المليونية ذات المطالب المحددة، والتي يمكن الإجابة عنها "بنعم" أو "لا"، وبالتالي يمكن قياس النجاح من عدمه، إلى حالة التعامل مع آثار غياب التصور المستقبلي للبلاد الذي لم يمتلكه أحد قبل 25 يناير، ولم يعرض له أحد بعد 11 فبراير 2011، ولكن كل ما يواجهه المجتمع الآن هي محاولات للسيطرة، والاستيلاء على الثورة، ودفع الحالة إلى الانتخابات البرلمانية تحت دعاوى الديمقراطية، ويتبدى هنا طبيعة الفراغ الذي تعاني منه الثورة، غياب القيادة والتنظيم، وواكب هذا انهيار منظومة الأحزاب السياسية التي كانت قائمة، وربما أن حزب الجبهة تجاوز الانهيار لكنه لا يمثل القدرة على استيعاب الثورة واحتياجاتها. والحزب الناصري تمزق إلى معسكرين وكذا كل من الوفد والتجمع، ولم يبق في الساحة غير جماعة الإخوان والجماعات الدينية، خاصة أن البناء المرتكز على السمع والطاعة، يحول دون أن تمس أعضاءه رياح التغيير، ولكنها تركتهم في ذات الأردية البالية التي لا تملك حديثا عن المستقبل، بقدر ما هو حديث الولاية وبإرهاب السمع والطاعة. وليس أكثر دلالة على ذلك من صراع الشيخ حافظ سلامة على مسجد النور بالعباسية، وانتقل رجل المقاومة إلى صراع الملكية، وتخرج مظاهرات تبحث عن كاميليا ورفيقة لها يقولون إنهما أسلمتا وأن الكنيسة تعتقلهما، وهكذا أطلقت الثورة العنان لحركات دون الوعي بمعنى الأمة أو التغيير، ولكنها غياهب أفق مظلم وبلا نضج. وذهب الأمل بالبعض أن يجد في العمق العربي بديلا مأمونا للبنك الدولي وصندوق النقد لتمويل عجز الميزانية في مصر، وقد يكون هذا ما دفع رئيس حكومة تسيير الأعمال إلى القيام بجولة ببعض دول المشرق العربي لبحث هذا الاحتياج، وعلى النقيض من هذا تتردد أقوال في مصر أن تمويلا بلغ مقداره 2 مليار دولار وفرته جهات سعودية لدعم الحركات الدينية في الانتخابات النيابية القادمة. صورة "دوريان جراي" التي كتبها أوسكار وايلد منذ 120 عاما، معبرة عن تشوهات ألمت به نتيجة أفعاله الشيطانية هو ما نطالعه يوميا في الإعلام والحوارات والاختلافات والادعاءات، الكل صار يحمل ذات السمت، "صورة دوريان جراي"، ووسط هذه الأشكال والأبنية والتجمعات المشوهة، تبرز الحاجة إلى "كادر الثورة"، الذي لا يذهب بعقله نشوة فوز وتستفز إرادته تحديات الفرز والانتقاء والبحث عن الطريق والسعي بإستراتيجية وطن تحددت عبر سنين نضاله، وليست محل انتقاء اختياري يقوم به أدعياء، عاشوا على آلام الوطن واستخدموها وظلوا في خندق معاد له، ولا يعنيهم إلا أبنية خاصة بهم، ولا ينشدون في نمو الوطن إلا حاجاتهم الخاصة. وتصبح المهمة الانتقال من "دوريان جراي" الذي شوهته الأفعال والنوايا الشيطانية، إلى "كادر الثورة" الذي يملك قدرة الحفاظ على الزخم، والوعي، والأهداف، والارتقاء بها عبر كل المواجهات المفروضة عليها. هي لحظة مواجهة الحقيقة كاملة وبلا مواربة، لأن ما تم هو جهد شعب تجلى في أروع لحظات عمره، وصنع بعرقه ودمه وصبره واحتشاده مشهدا لن يستطيع أحد التنكر له، ولا يجب أن ندعه لأحد لينقلب عليه، أيا من كان هذا الأحد، وأيا ما كانت مرجعيته، أو وظيفته. نحن الآن أمام لحظة مواجهة النفس، ولتكن الصراحة في مستوى الفعل الذي تم، أنتم أيها السادة، جميعكم تنقلبون على الثورة، ولا أستثني منكم أحدا. الثورة لا تنتظر القبول بها ولا بإرادتها ولا بأهدافها من أعدائها، الثورة تصنع عالمها، وتفرضه برجالها. احتياج الثورة إلى الكادر لا يعني أنه موجود، وإن وجد منه شيء، فهو غير منظم، وإن حاول التنظيم، فخبرته والمهام التي يواجهها والزمن المتاح أمامه، وحالة الأبوية المفروضة عليه من المجلس العسكري أو من حكومة تسيير الأعمال، كل هذا يفرض أن نمسك جمرة الحقيقة، أن الثورة مهددة بالضياع بالأسلوب الجاري التعامل به في اتجاه كافة مهامها ومن كافة الأطراف. وهنا تتجلى المعادلة الصعبة ومكوناتها كما يلي: 1. الثورة تدخل مرحلة الكادر، والكادر غائب، وإعداد الكادر يحتاج إلى رؤية وبرنامج إعداد ووقت. 2. أن المهمة الرئيسية للثورة واضحة وجلية، وتتمثل في العقد الاجتماعي الواجب أن يتم بين قوى المجتمع،وهو لا يعني بالضرورة زمنا بغير حدود، ولعل تجربة تجرى الآن نجحت في تجميع قرابة ال4000 من القيادات السياسية والكوادر من كافة التيارات في مؤتمر مصر الأول والذي اقترح فكرته الدكتور نور فرحات وتلقفته لجنة تحضيرية ونجحت في زمن لا يتجاوز الشهر في إعداد أوراق، وحشد هذا العدد، وهو تجربة عملية تؤكد إمكانية عقد الجمعية التأسيسية، وتوفير أوراقها، وأن تتسع لتشمل رقعة تمثيل شعبي ونقابي وسياسي أوسع، وهذه التجربة تدحض أن الأمر يحتاج زمنا بلا حدود. 3. أن هناك تجاهلا متعمدا من المجلس العسكري لهذه المهمة الرئيسية، وهو الأقدر من الجميع على إدراك الحالة الأمنية واحتياجاتها، وما يمكن أن يترتب عليها حال الذهاب إلى مجرد انتخابات نيابية ورئاسية. 4. أن صاحب القرار هو الشعب الذي وصل بكل الأطراف إلى ما هم عليه الآن، والشعب الذي فاجأ الجميع بإرادته وحشوده، يمكنه أن يعود من جديد لأداء ذات الدور لاستعادة الوجود. إن أي تصور يحاول أن يلتف من حول أهداف التغيير في هذه اللحظة، يفتح الباب أمام موجة أشد رسوخا مما سبق، وأكثر احتشادا، ولكنها قد تحمل داخلها مخاطر مواجهة لسنا في حاجة إليها. نعم الكادر غائب، ولكن أمامنا 120 يوما حتى وقت الترشيحات للانتخابات النيابية، وقد تكون هي فترة كافية لإعادة الاحتشاد المليوني دون التنظيمات الدينية، وإن اقتنعت هي من بعد ذلك فلا مانع من انضمامها، وإن كانت كافة المؤشرات تؤكد على أنها تنحاز لذاتها ومصالحها الضيقة دون مصلحة الوطن. وهي فترة يمكن إعداد الكادر خلالها، ومن خلال عملية الإعداد يتم اكتشاف الجديد الذي تحتاجه المجالس النيابية، واختبار تربة الوطن البشرية، والتي لم يكن العديد من النخب السياسية قادرين على تقدير مخزون التمرد والرفض والإرادة لدى الشعب، وهي معركة ظللنا في إطارها حتى أبانت الأحداث معنى "أن إرادة الشعب جزء من إرادة الله". وهي أيضاً فترة للحوار مع المجلس العسكري، ويكفي الحكومة أن تدير الأعمال وألا تزيد الموقف خبالا واضطرابا