قراءة التعديلات الوزارية الأخيرة تؤكد أن التغيير لحق 80 % من وزارات المجموعة الاقتصادية، فمن بين خمس وزارات هى المالية، التخطيط والتعاون الدولى، الصناعة والتجارة، الاستثمار، والبترول تم تغيير الوزير المسئول فيهم عدا المهندس حاتم صالح وزير الصناعة والتجارة. ولا شك أن ذلك يعنى وجود أزمة ما تخص الملف الاقتصادى، خاصة ما يتعلق بمفاوضات صندوق النقد الدولى. إن للعالم البريطانى جون مينارد كينز مقولة شهيرة محتواها «انك إن سألت خمسة من الاقتصاديين عن رأيهم فى قضية ما، فإنك ستحصل على ستة آراء متباينة» وهى مقولة تدلل على نسبية علم الاقتصاد واختلاف الاقتصاديين حول كثير من القضايا، لكن فى المشهد المصرى فإن الموقف مختلف، حيث يتفق كافة الاقتصاديين بمختلف رؤاهم وتوجهاتهم على تدهور الوضع الاقتصادى، وضرورة الحصول على قرض من صندوق النقد ليبعث حالة من الطمأنينة والثقة فى الاقتصاد تمكنه من التعامل مع كافة مؤسسات العالم. كان وما زال حصول مصر على قرض الصندوق والذى قدر له أن يكون 4.8 مليار دولار مسألة حياة أو موت بالنسبة للدولة المصرية، خاصة فى ظل عجز فى موازنة الدولة يتجاوز 200 مليار جنيه، واتساع فى الفجوة التمويلية لتصل لنحو 19.5 مليار دولار وما صاحب ذلك من آثار وتداعيات تضخمية وتراجع فى معدلات النمو. ومع استئناف مفاوضات الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولى فى نوفمبر الماضى كان من الواضح أن الفكرة الرئيسية تتمثل فى ضرورة تقديم برنامج إصلاحى مصرى يحدد للصندوق كيفية تخفيض العجز فى الموازنة. كان الصندوق قد اشترط ألا يتجاوز العجز نسبة 9.5% من الناتج الإجمالى، بينما تشير التقديرات الرسمية إلى أن نسبته الحالية 11.5%. إن الإجراءات الإصلاحية التى وافقت عليها الحكومة المصرية تفرض واقعا مأساويا للمواطنين البسطاء، وهو ما ينذر بتفجر كثير من الاضطرابات السياسية ربما تكون الأعنف فى عمر النظام الحالى. إن مصادر رسمية داخل صندوق النقد الدولى تؤكد أن شروط إقراض مصر تتضمن أولا زيادة أسعار السولار خاصة أن الصندوق يرى أن دعم الطاقة فى مصر غير معقول. كذلك زيادة ضريبة المبيعات وتوحيدها عند 10 % وإلغاء كافة الإعفاءات الخاصة بها. بالإضافة إلى تحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية وهو ما يحدث صدمة للاقتصاد المصرى. وكان الدكتور عبد الشكور شعلان المدير التنفيذى لصندوق النقد قد كشف فى حوار مع «الوفد» إن الصندوق طلب من الحكومة المصرية إعلان الشعب المصرى بتلك الإجراءات نظرا لما تفرضه من أعباء اجتماعية حادة على المواطنين. فضلا عن ذلك طلب الصندوق من مصر تحرير التجارة الخارجية تماما، ووقف أى رسوم حماية ضد السلع المستوردة من الخارج. كانت تلك الشروط صادمة لجماعة الإخوان المسلمين التى سيطرت بشكل ما على وزارة المالية عن طريق تعيين الدكتور عبدالله شحاتة مستشارا للوزير، ومشاركته فى جلسات التفاوض وهو ما آثار انتقاد مسئولين فى الصندوق. وكشفت مصادر مطلعة بمفاوضات صندوق النقد داخل وزارة المالية ل«الوفد» عن عدة أسرار خاصة بجلسات النقاش الأخيرة بين مسئولى الصندوق والحكومة، وتؤكد المصادر أن ما دار داخل كواليس تلك الجلسات كان السبب الرئيسى للتعديل الوزارى إرضاء لرغبات مسئولى الصندوق. وأكدت المصادر أن الأزمة الأخيرة التى دارت حول نائب وزير المالية هانى قدرى دميان كشفت المستور عن أخطاء وزراء المجموعة الاقتصادية، وكانت المسمار الأخير فى نعش تلك المجموعة التى لم تحظ بثقة مسئولى الصندوق باستثناء هشام رامز محافظ البنك المركزى الحالى و«هانى قدرى» باعتباره من أول المشاركين فى مفاوضات القرض. وتبرز تفاصيل تلك الأزمة منذ أيام عندما تقدم «قدرى» باستقالته إلى وزير المالية رافضاً ضغوط رجال جماعة الإخوان من مستشارى وزير المالية المعزول الدكتور المرسى حجازى وتدخلهم فى شئون عمله، بالإضافة إلى ضعف مبادرة الإصلاح الاقتصادى التى أعدتها الحكومة لإقناع الصندوق بالموافقة على القرض، وتسببت استقالة «قدرى» فى حرج وزير المالية لجهله بشئون إدارة المفاوضات بدونه، وأمام«قلة حيلة» الوزير المعزول قام كعادته بتكليف الدكتور عبدالله شحاتة مستشاره و«وزير المالية التنفيذى» بتولى ملف قرض الصندوق بديلاً ل«قدرى»، مما أثار غضب واعتراض مسئولى الصندوق لرفضهم التفاوض مع مسئول بالحكومة ينتمى بصفة رسمية للحزب الحاكم، وذلك باعتباره رئيس اللجنة الاقتصادية بحزب الحرية والعدالة، بخلاف تحفظ مسئولى الصندوق على أسلوب «شحاتة» فى التفاوض معهم خلال المفاوضات الأخيرة التى دارت الشهر الماضى، وأكدوا أن «شحاتة» لا يملك خبرة التفاوض الدولى مع صندوق النقد وليست لديه دراية كافية بشئون الاقتصاد المصرى!. وقام رئيس مجلس الوزراء بإلغاء موافقة وزير المالية السابق المرسى حجازى على استقالة «قدرى»، وعقد معه نائب الوزير جلسة خاصة بعيداً عن الوزير لمطالبته باستمراره فى تولى ملف قرض الصندوق، واضطر رئيس الوزراء إلى خلع وزير المالية وإبعاد «شحاتة» عن مفاوضات الصندوق إرضاء لمسئولى الصندوق، ومحاولة منه فى إيهامهم بعدم أخونة وزارة المالية فى الوقت الحالى على أقل تقدير حتى تستمر المفاوضات!. وكشفت المصادر أن تنازلات حكومة قنديل ومحاولات إرضاء الصندوق لن تتوقف على تغيير المفاوضين معهم من المجموعة الاقتصادية، بل سوف تمتد إلى تقديم عدة تعديلات جديدة على «المبادرة الوطنية للانطلاق الاقتصادى» والتى أصابت مسئولى الصندوق بخيبة أمل كبيرة بعد دراستهم لبنودها، حيث استقبلت الحكومة رداً من صندوق النقد يفيد اعتراض الصندوق علي البرنامج الاقتصادي الجديد، باعتباره لا يكفى وغير فعال لتحقيق الاصلاح الاقتصادى بمصر، نظراً لأنه لا يشمل ضمانات لتنفيذه، خاصة فى ظل تذبذب قرارات الحكومة، وهو ما ظهر فى موقف الرئيس محمد مرسى المتردد فى اتخاذ إجراءات زيادة الضرائب، وكذلك توقف عمليات إجراء الانتخابات بعد قرار القضاء الإدارى. كما اعترض الصندوق على البرنامج من حيث اعتماده على خطوات بطيئة ومنهج تدريجى للإصلاح الاقتصادى وإجراءات التقشف الحكومى وخفض دعم الطاقة، في الوقت الذي تراجعت فيه احتياطيات النقد الأجنبي إلي معدل حرج بلغ 13.5 مليار دولار فقط، والذي لا يكفي أكثر من 3 أشهر للواردات الخارجية! وكشف رد صندوق النقد الدولى على الحكومة عن وجود شكوك لدى مسئولى الصندوق فى حدوث استقرار سياسى خلال الفترة الحالية، خاصة وأن تنفيذ أى إجراءات إصلاحية للاقتصاد أو زيادة ضرائب جديدة أو خفض الدعم قد تؤدى إلى سلسلة جديدة من الاعتراضات الشعبية التى قد تمنع تطبيقها وتراجع الحكومة المصرية عن تنفيذ هذا البرنامج الإصلاحى. فى المقابل كانت المجموعة الاقتصادية المعزولة ترى أنها قدمت للصندوق ما يريد بشأن تقديم برنامج اقتصادى يكفل للصندوق ضمان سداد مصر لالتزاماتها وفقاً لهذا البرنامج الإصلاحى، بناء على طلب الصندوق لضمان استئناف المفاوضات وتوقيع اتفاق الحصول علي القرض الذي يجري التفاوض عليه منذ ما يقرب من عامين، وهذا ما ظهر فى تصريح الدكتور المرسى حجازى وزير المالية السابق بأن الحكومة «فعلت ما عليها»!، مما أكد عجز وزير المالية ووزراء المجموعة الاقتصادية عن إقناع مسئولى الصندوق وبالتالى من الصعب استمرارهم، مما أدى إلى تغييرهم فى التعديل الأخير. وكان هانى قدرى مساعد أول وزير المالية قد أكد أن محور المناقشات مع صندوق النقد الدولى يتركز فى تحديد المسار النزولى للدين العام المحلى والخارجى، مشيرا إلى أن الصندوق مهتم بإثبات حدوث اتجاه هبوطى فى مسار العجز الكلى مقابل صعود الاحتياطى النقدى، مشيرا إلى وجود مشكلة حالية تتعلق بزيادة الفجوة التمويلية إلى نحو 19.5 مليار دولار، مما سيجعل الصندوق يحتاج تقديم ضمانات لسداد تلك الفجوة فى ظل ضعف الاستثمارات وذلك من خلال المساعدات الخارجية والمنح والتمويل الميسر الذى تخطط الحكومة للحصول عليه من المؤسسات والجهات المانحة، لكن هذه المنح والتسهيلات الائتمانية متوقفة انتظارا لإتمام اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي.