قبل عامين من عمر الزمن، لم يكن للثورة معنى في عقول السوريين وقلوبهم, لم تكن هذه المفردة واردةً في القاموس الثقافي أو المجتمعي للشعب السوري بأي شكل من الأشكال. ولم تكن لها دلالات عملية تتعلق بأي جانب من جوانب حياتهم اليومية وواقعهم المعاشي. على مدى عقود، سمع السوريون كثيراً وقرؤوا في مناهج الدراسة عن ثوراتٍ حصلت على مر الأيام هنا وهناك. فمن الثورة الفرنسية إلى الثورة الماركسية، مروراً بالثورات في أميركا اللاتينية وفيتنام وإفريقيا وحتى الثورات العربية ضد المستعمر، كانت الثورة على الدوام (فعلاً ماضياً) لم يهتم السوريون بتفاصيله في نهاية المطاف. لم يكن ثمة ارتباطٌ عاطفي أو شعورٌ بعلاقةٍ حميمية حتى مع ثوراتٍ تتعلق بسوريا، مثل الثورة العربية الكبرى أو الثورة السورية ضد الفرنسيين. بقيت هذه الثورات أيضاً شيئاً من الماضي يبقى مكانه محفوظاً في كتب التاريخ، لكن علاقته بالحاضر باهتة المعالم في أحسن الأحوال. لم يأتِ هذا من فراغ، وربما كان بمثابة رد فعلٍ على واقعٍ عاشه الشعب السوري طيلة عقود تحت عنوان (ثورة الثامن من آذار). فبعد حصول الانقلاب العسكري الذي سمّاه أصحابه ثورة كذباً وبهتاناً، فقد مصطلح الثورة كل ما تبقى من دلالاته وانقلب في الوعي الفردي والاجتماعي إلى مرادفٍ لظاهرة لا تحمل معها سوى الديكتاتورية والظلم والفساد على جميع المستويات. يكفي أن تقرأ شيئاً من الغثاء المكتوب على صفحة حزب البعث عن الثورة لتصاب بمشاعر سيكون القرف أقل وصف يليق بها. تقول الوثيقة: «إن الحديث عن ثورة الثامن من آذار وإنجازاتها، لا يمكن فصله عن نضال حزب البعث العربي الاشتراكي، فهذه الثورة هي تتويج لنضال الحزب القومي خلال سنوات من الكفاح والنضال، استطاع خلالها حزب البعث أن يُرسخ في أذهان الجماهير الأهداف الأساسية المعبرة عن تطلعاتها في بناء مجتمع متحرر وأن يحرك الجماهير لتقدم التضحيات من أجل قضيتها وتحقيق آمالها في بناء دولة الوحدة والحرية والاشتراكية... ولأن الثورة هي تأسيس لواقع جديد أفضل، والحزب هو الأداة الحقيقية في صناعة هذا الواقع المنشود، فقد وضع الحزب خريطة شاملة لتطوير الواقع في كل المجالات معتمداً على الجماهير المنظمة المشاركة في صناعة القرار. فالثورة التي كانت رداً طبيعياً على أيديولوجية الانفصال الرجعي وتلبية لطموحات الجماهير في القضاء على الاستغلال ستبقى مستمرة ومتجددة». لهذا، يمكن الجزم أن سورياً واحداً لم يحلم في حياته بأن يكون (ثائراً). ثم دار الزمن دورة وقام السوريون بفعل نادر في الحياة البشرية. استعادوا المعاني الحقيقية للثورة من أعماق التاريخ وأشعلوها. وأصبح يعيش في سوريا اليوم ملايين من الثوار، كل بطريقته وحسب قدرته وإمكاناته، لكن الثورة أصبحت لديهم نمط حياة. لن نمل من تكرار حقيقة أن ما يجري هو ملحمة سورية كبرى، وأن هذا الشعب يكتب بداية حقيقية أخرى لتاريخه العظيم، وأنه يقدم من خلالها نموذجاً إنسانياً يُحتذى سيتحدث عنه التاريخ طويلاً. وأن السوريين يقدمون في هذه الملحمة البشرية، بحياتهم وسلوكهم وممارساتهم ومواقفهم نمطاً من الفعل الإنساني السامي يطمح لتحقيقه كل شعب يتوق للحرية والكرامة، وكل أمة تريد أن تبدأ فصلاً جديداً من فصول وجودها على هذه الأرض. لن نتعب من التأكيد بأن كل كلام منمق عن الثورة السورية سيكون تافهاً وقاصراً عن التعبير. وأن حديثنا يمثل محاولة متواضعة نستقرئ من خلالها ظاهرة اجتماعية إنسانية فريدة أصبحت لها مفرداتها ونحويتها ولغتها الخاصة. ظاهرة نُذكّر مرة أخرى بالحاجة الماسة لدراستها من جانب علماء الاجتماع في كل المجالات، لأنها تتجاوز الفعل السياسي المباشر الذي يركّز عليه الكثيرون، وتقدّم شواهد وأمثلة يصعب حصرها على ولادة جديدة لواقع إنساني جديد. قبل عامين من الزمن، كان بإمكانك أن تسأل شريحة متنوعة من أبناء الشعب السوري عما يفعلونه في الحياة وعن مهنتهم وموقعهم في المجتمع، لتسمع الإجابات التالية: طالبٌ في المدرسة، شابٌ في المرحلة الثانوية، فتاةٌ جامعية، طبيب، مهندس، فلاح، موظفة، ضابط، سائق، ممرضة، عامل، أستاذ جامعة، فنانة تشكيلية، تاجر، صناعي، معلّمة، حِرَفي، رياضي، كاتب، شاعرة. أما الآن، فيمكنك أن تسألهم، وستضع في خانة الإجابة كلمة واحدة يجب أن تُكتب ببنطٍ عريض وبماء الذهب: ثائر. أعرف شخصياً، ويعرف الكثيرون غيري، ثواراً بأسمائهم كانوا يُمثلون جميع المهن السابقة، لكنهم يعملون الآن للثورة ليل نهار. ثائرٌ سوري: فكّروا في الأمر قليلاً, فثمة أمر يتجاوز الحلم في أن تنال شرفاً مثل هذا الشرف. شرفٌ يقول البعض أنه صعب المنال إلا مرةً كل بضعة أجيال، ونقول بيقين حين يتعلق الأمر بالثورة السورية إنه لا يحصل في التاريخ إلا بشكلٍ نادر. لم تعد الثورة بالنسبة للسوريين فعلاً ماضياً, بل صارت فعلاً يتعلق بتغيير الحاضر وصناعة المستقبل، وأصبحوا (يُفصّلون) وقائع حياتهم اليومية بما يناسب العمل للثورة وتأمين أسباب نصرها. أما القصص في هذا المجال فهي أكثر من أن تُعدّ وتُحصى، وسيكون لها مقامها المطلوب. من طبيعة الإنسان أن يعتاد على ظواهر الحياة، حتى لو كانت متميزة وباهرة، فلا يرى فيها بعد فترة إلا أمراً عادياً. يحصل هذا مع الكثيرين لكنه يحصل مع (مثقفين) و(منظّرين) يغفلون عن الحفر في أعماق الظاهرة، فلا يكون منهم إلا أن يتصنّعوا الوقار ويضعوا ما نتحدث عنه في خانة العواطف. لا بأس في ترك الحكم للتاريخ في مثل هذه المسائل، وليس لنا إلا أن نعيد ما قلناه سابقاً: تحتارُ فيما تقول وفيما تكتب وفيما تتحدث وأنت تحاول أن تختصر الملحمة السورية العظيمة في مقال من صفحتين. ثم تقرأ تعريفاً للملحمة يقول إنها: «قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه»، فتشعر أن السوريين ماضون لا بد في كتابة قصتهم وصناعة ملحمتهم التاريخية بطريقتهم وأبجديتهم الخاصة، وكأنما هم يعيدون اختراع الأبجدية للبشرية.. مرةً أخرى بعد أن قاموا بذلك منذ آلاف السنين. نقلا عن صحيفة العرب القطرية