تتطور الثورة السورية يومًا بعد يوم، وتؤكد تطورات الأحداث في الشهور التسعة من عمرها أن السوريين مصممون على إنجاح ثورتهم، كما يتأكد يومًا بعد يوم أن الشعب السوري أصبح أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق حلمه، وإزاحة نظام القهر والقمع والتنكيل البعثي الأسدي. أعلن قادة الثورة السورية إطلاق حملة عصيان مدني لزيادة الضغط على نظام بشار، وتظاهر السوريون يوم الجمعة الماضية تحت شعار: "إضراب الكرامة"، ودعوْا على موقع الثورة السورية على فيسبوك إلى "إضراب عام الأحد" في سياق "حملة عصيان مدني". وهو تطور مهم ولافت، وإذا ازدادت وتائرُه فمن شأنه تهديد النظام البعثي القمعي بشدة. فالعصيان المدني هو تعمُّد مخالفة قوانين وطلبات وأوامر محددة لحكومة أو قوة احتلال بغير اللجوء إلى العنف. وهو أحد الأساليب الأساسية للمقاومة السلمية. والعصيان المدني هو أحد الطرق التي ثار بها الناس على القوانين غير العادلة، وقد استُخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة؛ ففي الهند كانت حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية، وفي جنوب أفريقيا كانت مقاومة الفصل العنصري، وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية، وفي حركات السلام حول العالم، تم استخدام هذا الأسلوب بكفاءة وفاعلية. وبالرغم من اشتراك العصيان المدني مع الإضراب (وخصوصًا الإضراب العام) في كونهما وسيلتين تستخدمهما الجماهير للمطالبة برفع ظلم أصابها، إلا أن الإضراب قد يتعلق بحقوق العمال في مواجهة صاحب العمل (والذي يمكن أن يكون هو الحكومة). ومن أهم تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقًا، ما قام به المصريون ضد الاحتلال البريطاني في ثورة 1919م. وفي أوروبا، استخدم الثوار العصيان المدني فيما عرف إجمالًا بالثورات الملونة التي غشيت دولًا شيوعية سابقة في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا، وهي الثورات التي تأثرت بأفكار جين شارب المعروف باسم "مكيافيلي اللاعنف" و"كلاوسفيتس الحرب السلمية". العصيان المدني هو الطريق الأمثل للمقاومة السلمية، وهو الأسلوب الأسلم والأضمن لتغيير النظم القمعية المتوحشة، لأن هذه الأنظمة الشمولية تعيش وتتغذى بالعنف والعنف المضاد، واللاعنف المضاد أو العصيان المدني يشلها ويجعلها لا تستطيع التصرف. وضمن ثقافة العصيان المدني وتهيئة الأجواء لنجاحه، يمكننا فهم ما قاله برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري، حيث حث قائد الجيش السوري الحر الذي ينضوي تحت لوائه كثير من المنشقين العسكريين الذين انضموا للثورة، على وقف العمليات الهجومية التي يمكن أن تؤدي إلى نشوب حرب أهلية. ربما يستغرب البعض قولنا: إن الشعب السوري أصبح أقرب من أي وقت مضى لتحقيق حلمه في إنجاح ثورته، لكن التفكير العميق يجعل الإنسان يصل إلى هذه النتيجة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال خوض النظام السوري معركة الأرض المحروقة مع شعبه، ومن خلال استمراره في ارتكاب المجازر التي تقوده نحو الهاوية. ولا يفعل ذلك إلا نظام عاجز وفاشل جعل بينه وبين شعبه إرثًا ثقيلًا من دماء الأبرياء وممارسات القمع والتنكيل والإذلال، ومسألة الكرامة شديدة الحساسية لدى السوريين، وهكذا أصبح لدى كل عائلة سورية ثأر لدى نظام بشار، فالأمم المتحدة تتحدث عن خمسة آلاف من القتلى، ومصادر سورية تقول: إن العدد وصل إلى عشرين ألفًا، وهو ما يعني أن غالبية الأسر فقدت شهداء في هذه الثورة، وأصبح لها ثأر تطالب به بشار. نظام بشار، كعادته دائمًا في الكذب والتخويف، قام بمناورات عسكرية ليستعرض بها قوته وليخيف السوريين، ولكن الشعب السوري فهم اللعبة بسرعة، وقال: إن من تحدى الجبروت لمدة تسعة أشهر لن تخيفه مجرد مناورات، فالجيش فعل كل ما يستطيع خلال الشهور الماضية، ومع ذلك لم يستطع تخويف السوريين وإخماد ثورتهم وفضها. وهكذا أدرك السوريون أن المناورات دليل ضعف وليست علامة قوة. ونستطيع قراءة نهاية بشار ونظامه من خلال الأساليب التي يتبعها مع مبادرات الجامعة العربية، والتي ما هي إلا نوع من كسب الوقت للمماطلة والمراوغة، لأن سلوك النظام في الداخل لن يتغير ولن يتبدل، لأنه لا يملك أي خيار آخر، وهو مستمر في حربه الطاحنة ضد شعبه على طريقة إما قاتل وإما مقتول. أكبر دليل على قرب نهاية النظام البعثي السوري هو وصوله إلى هذا المستوى الكبير من الإجرام، ودخوله في سباق مع الوقت، وخوضه حرب الأرض المحروقة لإراقة المزيد من الدماء، وعدم التورع عن إحراق بيوت الناس وتدميرها، ولا يفعل ذلك إلا ديكتاتور مجرم يعيش أيامه الأخيرة. ومن الدلائل على قرب انهيار نظام بشار، تزايد ظاهرة الانشقاقات، سواء في صفوف الجيش أو في صفوف الأمن، فكل هذه الأجهزة أصبحت تعاني وضعًا صعبًا ومعظمها أُنهك، وعناصرها يدركون أنهم يخوضون معركة خاسرة ضد شعبهم وأهلهم، ولذلك بدأت الانشقاقات تتسع. لكن أكبر دليل في رأي كاتب هذه السطور على قرب نهاية بشار هو تصريحاته الأخيرة لشبكة (أي بي سي) الأمريكية، والتي حاول خلالها بشار أن يبعد نفسه عن تهمة إصدار الأوامر بالتعذيب والسجن والقتل لكي لا يكون ذلك اعترافًا رسميًا بجرائمه فيما لو سقط النظام. فهو يعتبر أن معظم القتلى من جيشه أو قوات أمنه، أما لو قتل مدني فليس ذلك بأمره الشخصي إنما هو من أفعال صغار الضباط أو كبارهم. هذه التصريحات التي سمعها وشاهدها العالم كله أكدت للجميع أن الديكتاتور السوري يستخف بعقول المشاهدين الذين يشاهدون يوميًا تطورات المظاهرات وما تتعرض له من قمع وقتل على شاشات التليفزيون. وقد أثارت هذه التصريحات موجة استياء عالمية، وقال مسئولون وساسة عالميون: إن الرئيس السوري إما أنه "منفصل عن الواقع" أو "مجنون" أو "يستخف بعقول العالم"، بعد أن قال إنه غير مسئول عن مقتل آلاف المحتجين. فالعالم يشاهد ما يحدث في سوريا، وتقارير العنف ضد الشعب السوري "موثوق بها وصادمة"، وتصريحات الأسد تظهر انفصاله عن الواقع. ومن أجل ذلك طالبت حكومات دول كبرى بضرورة ألا يفلت الأسد من العدالة. لقد استهلك بشار كل الخيارات، وكل ما يقوم به الآن من قتل لشعبه ما هو إلا تأجيل ليوم سيأتي حتمًا، ولم يعد أمامه إلا خيار واحد خيالي وسوف نفترض حدوثه، وهو أن يقوم بالإصلاح الحقيقي الفعلي وأن يتخلى عن إجرامه وقتله لشعبه، فيعدل الدستور ويطلق سراح المعتقلين ويجري انتخابات برلمانية ورئاسية نظيفة وشفافة، ويمكنه المشاركة في تلك الانتخابات، كأي مواطن سوري، أو كرئيس حزب سياسي محب لأبناء وطنه. لكننا ومن خلال تتبع سلوك نظام بشار وأبيه من قبله، نستطيع أن نقول: إن هذا الخيال لن يحدث أبدًا في الواقع، وهكذا تنتهي الخيارات جميعها ولم يعد أمام بشار إلا أن يموت بنيران شعبه أو ينتحر. ولن تكون نهايته إلا واحدة من هاتين الاثنتين، لأنه لو فكر في مغادرة سوريا إلى أية دولة فسوف يتم تسليمه ويحاكم، وهي نهاية ذليلة لن يقبلها أبدًا. انكشفت جرائم بشار ونظامه أمام العالم كله، وأصبح النظام السوري معزولًا لا يدعمه إلا روسيا والصين وإيران والبرازيل وفنزويلا وبعض الدول الصغيرة. الحكومة العراقية هي الأخرى تؤيد نظام بشار، وربما كان هذا من غرائب الأمور، لكن اللبس يزول حينما نعرف أن حكومة المالكي تتلقى تعليماتها من طهران، وكانت هذه التعليمات واضحة إلى حكومة المالكي بضرورة نسيان مواقف البعث السوري السابقة مثل تسهيل دخول المسلحين للعراق، وكذلك احتضان مؤيدي صدام حسين ورعاية عمليات التفجير ضد العراق. كما أن الحكومة العراقية تخشى سقوط النظام السوري وتأثيراته على الداخل العراقي. إيران هي أكبر داعم لنظام البعث السوري، ومؤخرًا أفتى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران على خامنئي بشراء كل المنتجات السورية، أيًّا كان نوعها وكمياتها وبالعملة الصعبة. كما أن دمشقوطهران اتفقتا منذ أسابيع على استيراد إيران لفائض محصول سوريا من الحمضيات، وتحدث الجانبان عن توريد 120 مليون طن مبدئيًا، وذلك بعد أيام من فرض الجامعة العربية عقوبات اقتصادية على سوريا. كما تحدثت تقارير سابقة عن دعم إيران لليرة السورية من خلال بيع نفطها بالعملة السورية. ورغم المساعدات الإيرانية الكبيرة لنظام بشار، فإنه لن يصح في النهاية إلا الصحيح، وسوف تنتصر ثورة الشعب السوري، وسيكتب التاريخ أنها من أعظم الثورات، لأن الشعب السوري وقف وحيدًا أمام ديكتاتور مجنون وأمام جيش وقوات أمن مدججة بترسانة السلاح الروسي والإيراني، بينما وقفت الدول العربية تتفرج على الدم السوري وهو يراق. وإذا كانت الجامعة العربية قد بدأت سلسلة من الإجراءات ضد سوريا وصلت إلى حد تجميد العضوية وفرض عقوبات من أجل وقف العنف في هذا البلد، إلا أن الخطوة المقبلة قد تكون طلب التدخل العسكري وإحالة الملف السوري إلى مجلس الأمن، والبقية معروفة. لكننا لا نريد التدخل الغربي في ليبيا، والأهم من ذلك أن يفعل السوريون كل ما في وسعهم كي يسقط نظام بشار بأيديهم هم، وعلى السوريين أن يُقنعوا الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسيين السوريين في الداخل وكل السفراء والدبلوماسيين في الخارج بأن الانفضاض من حول بشار ونظامه هو الحل الأمثل، وأن مستقبلهم ومستقبل بلدهم هو في الانقلاب على هذا النظام المتهالك الذي يغرق، وعلى السوريين أن يُقنعوا هؤلاء بأنهم لو انتقلوا إلى صفوف الشعب والمناضلين والثوار، فإن الضمانات كافية، فكل مسئول سياسي أو دبلوماسي أو أمني أو عسكري أو إداري سيكون له دوره في المستقبل إذا انسلخ عن هذه السلطة المجرمة القاتلة، ولن يكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة إلا مَن ارتكب الجرائم بحق شعبه وسفك دماء الأبرياء.. إذا حدث ذلك فسوف يسقط النظام البعثي سريعًا دون الحاجة إلى تدخل خارجي. المصدر:الإسلام اليوم