وزير التنمية المحلية يُهنئ الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بعيد العمال    محافظ القاهرة: القيادة السياسية تحرص على الاهتمام بالتعليم الفني    قيادي بمستقبل وطن: عمّال مصر هم عمود الدولة    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    أسعار الخضراوات اليوم 30 أبريل في سوق العبور    أيمن الجميل: إنجازات الطاقة النظيفة والزراعة الحديثة والاقتصاد الأخضر قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية    تراجع مؤشرات البورصة المصرية مع بداية تعاملات اليوم 30 أبريل    جهاز مشروعات التنمية الشاملة ينظم احتفالية لحصاد حقول القمح المنزرعة بالأساليب الحديثة    وزير الإنتاج الحربي يتفقد خطوط شركة أبو زعبل للصناعات الهندسية    خطوات ل فحص السيارة المستعملة قبل شراءها ؟    مدبولي: المباحثات مع رئيس وزراء بيلاروسيا تطرقت لتعزيز التبادل التجاري    صحيفة أمريكية: الناتو يستعد لمواجهة روسيا والتغلب على مشاكله الخاصة    الدفاع المدني الفلسطيني: لا بديل عن إنهاء المأساة الإنسانية في غزة    مساعد وزير الخارجية الأسبق: الجهد المصري لا يتوقف لتهدئة الأوضاع في غزة    أول زيارة رسمية.. بدء جلسة المباحثات المصرية البيلاروسية برئاسة رئيسي وزراء البلدين    تاريخ مواجهات ريال مدريد وبايرن ميونخ قبل موقعة اليوم في دوري الأبطال.. تفوق بافاري    رئيس الزمالك يعلن استمرار زيزو وعواد مع الفريق ويشيد بفتوح    الزمالك يلتقي بطل السنغال ببطولة إفريقيا للطائرة سيدات    فالفيردي: جاهز لمواجهة بايرن ميونيخ    القيعي: يجب تعديل نظام المسابقات.. وعبارة "مصلحة المنتخب" حق يراد به أمور أخرى    تحرير 149 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    السجن 10 سنوات ل6 أشخاص بالإسكندرية بتهمة استعراض القوة    ضبط 8 أطنان لحوم ودواجن وأسماك فاسدة بالمنوفية    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبي جرائم الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    أول بيان من «الداخلية» عن أكاذيب الإخوان بشأن «انتهاكات سجن القناطر»    وفد شركات السياحة المصرية بالسعودية يكشف تفاصيل الاستعداد لموسم الحج    المؤبد ل عاطل بتهمة حيازة «مخدر الميثامفيتامين» في الجيزة (تفاصيل)    ختام عروض الإسكندرية للفيلم القصير بحضور كامل العدد    تكريم نقيب الممثلين على هامش الصالون الثقافي لرئيس جامعة المنصورة    «بنك مصر» يشارك الأطفال احتفالهم بيوم اليتيم في 15 محافظة    مستشار زاهي حواس يكشف سبب عدم وجود أنبياء الله في الآثار المصرية حتى الآن (تفاصيل)    ساويرس يوجه رسالة مؤثرة ل أحمد السقا وكريم عبد العزيز عن الصديق الوفي    لحظة إشهار الناشط الأمريكي تايغ بيري إسلامه في مظاهرة لدعم غزة    هيئة الدواء تنصح الأهالي بالالتزام بمواعيد حصول الأطفال على التطعيمات الأساسية    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    هل الأسماك المملحة خطر فقط على مرضى ضغط الدم؟.. «بحوث الأغذية» تجيب    عملية طعن تستهدف شرطيين وعددا من المارة قرب محطة للمترو شمال شرق لندن    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورنا يحسم الجدل بشأن حدوث جلطات بعد تلقي اللقاح    "صدى البلد" يحاور وزير العمل.. 8 مفاجآت قوية بشأن الأجور وأصول اتحاد عمال مصر وقانون العمل    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    أقدس أيام السنة.. كيف تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بأسبوع آلام السيد المسيح؟    وزير الإسكان: نعمل على الاستثمار في العامل البشري والكوادر الشبابية    مصادر: من المتوقع أن ترد حماس على مقترح صفقة التبادل مساء الغد    طلاب النقل الثانوى الأزهرى يؤدون امتحانات التفسير والفلسفة والأحياء اليوم    اليوم.. "الصحفيين" تفتتح مركز التدريب بعد تطويره    إمام: شعبية الأهلي والزمالك متساوية..ومحمد صلاح أسطورة مصر الوحيدة    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    الطيران الحربي الإسرائيلي يشن سلسلة غارات عنيفة شرق مخيم جباليا شمال غزة    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    أخبار 24 ساعة.. وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلى حتى الآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثوار حتي آخر الزمان‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 04 - 2011

لو أن المؤرخ العبقري جيمس هنري بريستد صاحب كتاب فجر الضمير جاء إلينا من عليائه‏,‏ وهبط إلي مديان التحرير‏,‏ وشاهد معنا انتفاضة شباب الخامس والعشرين من يناير‏,‏ وعاش أحداث ثورة مصر ساعة بساعة, ويوما بيوم, لصفق بيديه جذلا كطفل صغير, وأحني رأسه تحية واحتراما وقال: إنني أري في عيون الشباب المصري إشراقة شمس فجر الضمير الإنساني من جديد.. فأنتم الذين خرج فجر الضمير الإنساني من عندكم.. من هذه الأرض الطيبة.. قبل نزول التوراة بأكثر من ثلاثة ألاف عام.. بل إن فجر الضمير قد انبثق من عندكم أنتم أربع مرات قبل أن تهبط ألواح التوراة علي سيدنا موسي في جبل الطور هنا في مصر.
أسأله: أربع مرات عرف الإنسان المصري أن خلف هذا الكون قوة عظمي خالدة لا يراها أحد.. اسمها الله.
قال: نعم, وعرف الخير, والحق, والعدل, والمساواة, وعبادة الإله الواحد الأحد.. وعرف أكثر من ذلك.. عرف أن هناك ثواب وعقاب, وأن هناك بعث بعد الموت.. وأن هناك جنة ونار!
ولكن رفيق طريقي ودربي هذه المرة هو المؤرخ المصري عالي الهمة أمين الكلمة عبدالرحمن الجبرتي الذي بادرني بقوله: الثوار في كل زمان وفي كل مكان.. الشمس تشرق في عيونهم وطائر التحدي يحلق فوق هاماتهم لتتبدل مقادير الشعوب.. ويتحرك موكب الأقدار في نهر الزمن.. تاركا بصماته في النهر وعلي الشاطئين..
وآخر الثوار هم ثوار الخامس والعشرين من يناير الذين اصبحوا حديث الدنيا بحالها والذين قلبوا موازين الحرية في دول الجوار.. وما أبعد من الجوار.. انهم من خلصوا مصر من آخر الفراعين... وجنوده الذين عاثوا في البلاد وجورا وظلما وسقط منهم اكثر من825 شهيدا..
بعد هذه الديباجة الرائعة لمولانا عبدالرحمن الجبرتي شيخ المؤرخين والعلم العلامة والحبر الفهامة كما كانوا يطلقون عليه في زمانه.. يثبت عينيه في عيني علامة أنه سيقول كلاما أكيدا مؤكدا: ولكن.. ثوار الخامس والعشرين من يناير ليسوا اول الثوار.. وليسوا آخرهم
ياسيدي قل لي بربك من منكم يعرف أن أول ثائر في تاريخ البشرية جمعاء مصري اسمه أحمس؟
من منكم يعرف أن قوافل الرعاة الهكسوس عندما هجموا علي مصر في عصر الاضمحلال, واستولوا علي الوجه البحري كله, وتركوا للمصريين صعيد مصر وأرسل ملكهم رسالة الي ملك مصر في الجنوب يقول له فيها: إن اصوات أفراس النهر في طيبة تقلق مضجعي في نواريس وتحرمني من النوم.. إذا لم تسكتها.. فسوف أرسل إليك من يسكتها ويسكتك!
قلت: دعني أكمل لك بقية الملحمة المصرية التي كان بطلها أحمس الأول الذي جمع الشعب والجند والسلاح والروح وانطلق بها شمالا ليحرر مصر من القدم الآسيوية الهمجية!
يقاطعني بقوله: ولكن الذي لا تعرفونه يا أخي أو تعرفونه وتخفونه أو تتركونه في باطن الكتب دون أن تنشروه علي الملأ ليتحول الي قصص بطولة وقصائد مجد وأناشيد وغناوي علي شفاه الصبايا علي شاطئ النيل.. أن هذا الشعب المصري يسالم من يسالمه ويعادي من يعاديه.. هو طيب حقا كريم دائما مجامل حلو المعشر سريع البديهة.. ولكنه ثائر بطبعه ساخر من كل من ظلمه إذا لم يقدر عليهم.. كنز من النكات والقفشات.. لا يهدأ ولا يمل ولا يركن الي السكون.. يغفو أحيانا ولكنه لا ينام أبدا..
أنني اريد منك ومن أمثالك ومن أقرانك.. ممن يحترفون مهنة القلم والكتابة.. أن تعلموا أولادكم وتنشروا علي العالم من حولكم قصة الثورات المصرية الشعبية التي قام بها رجال عظام ونساء أعظم وأولاد وغلمان وشيوخ وقساوسة ورهبان وتجار ومعلمون وأناس عاديون.. غيروا دفة المقادير ودفعوا دماءهم وأرواحهم وممتلكاتهم وأولادهم.. وعمرهم كله حتي يتحرر الوطن ويرحل الغزاة الي غير رجعة.. وينزل البغاة من فوق عروشهم.. لتبقي الكلمة في النهاية للشعب وحده..
قلت: هذا حقك علينا وحق الأجيال التي ندخرها في بنك المستقبل.. وأنت شيخ المؤرخين.. نريد أن تحكي لنا قصتك أنت مع أول ثورة مصرية في العصر الحديث ومع الثائرين المصريين في كل عصر وأوان.. وقد كتبت عنهم كثيرا في كتبك ومخطوطاتك..
................
.................
قال: سأحدثك عن ثورة القاهرة الاولي ضد نابليون وجنوده التي قادها أعظم ثائر في تاريخ الثورات الشعبية في مصر كلها.. اسمه السيد عمر مكرم.. ولا تقل لي أننا كرمناه بأن جعلنا مسجده سرادق عزاء للباكين والباكيات والمعزين والمعزيات!
ولعلمك فلقد دخل نابليون بونابرت القاهرة في الرابع والعشرين من يوليو عام..1798 وبعده ثلاثة أشهر فقط ثارت القاهرة في وجهه..
هذه الثورة قال عنها المؤرخون الغربيون فيما بعد انها المقدمة الحقيقية لثورات القاهرة التالية.. ولثورة الزعيم أحمد عرابي وثورة1919 التي قادها سعد زغلول وأصبح كل مصري وقتها اسمه سعد.. والروح الوطنية الوثابة المتمثلة في الثائر الفذ مصطفي كامل, والمناضل حتي الموت محمد فريد, وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي, والمعلم أحمد لطفي السيد, وشعاع النور جمال الدين الأفغاني, والحكمة المهداه الشيخ محمد عبده.. والثوار الشرفاء الذين كتبوا بدمائهم ملحمة النضال ضد المحتل الانجليزي علي خط القناة.. وفي قلب القاهرة.. وجند مصر الشرفاء الذين حاربوا في فلسطين وأرغمتهم المؤامرة الدولية بالتقسيم علي الانسحاب والعودة.. وكان أول درس في النضال والثورة تعلمه جمال عبدالناصر ورفاقه.. وياله من درس قادهم لتحقيق النصر في ثورة يوليو.. التي أحدثت زلزالا سياسيا هائلا في كيان الإنسان العربي والنظم العربية والإسلامية بل وفي القارة الافريقية كلها.
قلت: يامولانا أنت الشاهد الحي علي أول ثورة للقاهرة ضد القدم الهمجية الفرنسية.. احك ولا تخف.. تكلم وفضفض بلا خوف بلا رهبة من حاكم أو محتل.. فالكل في بلدنا يقول ويحكي ويتكلم بلا خوف!
يقول وقد غاظته كلمتي: ومتي كنت أخاف يا هذا.. لقد كتبت كل كتبي بمنتهي الحرية.. الجبرتي لا يخاف ولا يرهب أحدا!
......................
.....................
يفتح مولانا الجبرتي مخطوطاته وأقلامه وأوراقه أمامه ويعتدل في جلسته قبل أن يحكي لنا كشاهد عيان لأول ثورة للقاهرة ومصر كلها بعد ثلاثة أشهر فقط من دخول نابليون إلي مصر..
يقول مؤرخنا الكبير: دخل نابليون القاهرة في24 يوليو1789 وفي21 اكتوبر من نفس السنة, أي بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من دخول الفرنسيين للقاهرة.. بدأت الثورة الاولي وكانت اول تطبيق عملي للحرب الشعبية في مدينة مفتوحة ضد خصم متفوق.
وقد اختلف المؤرخون في تحديد دوافع هذه الثورة وأسبابها.. فأنا أري أن اسبابها هي الاجراءات التي اتخذها الفرنسيون ولم يكن الشعب معتادا عليها.. كإلزام الفرنسيين لاصحاب الدكاكين بأن يعلقوا مصابيح مضاءة ليلا أمام دكاكينهم.. وتسجيل الوفيات والمواليد.. ونقل أماكن القبور.. وخروج النساء سافرات وانتشار الخمامير وهدم ابواب الحارات وبعض الجوامع وفرض الضرائب.. وخصوصا التوصية التي اتخذها الديوان بفرض ضريبة علي العقارات وهي التي اشعلت الثورة.
ولكن المؤرخ نيقولا الترك في مذكراته يؤكد لنا ان من اسباب ثورة القاهرة ان المصريين كانوا يرون نساءهم وبناتهم مكشوفات الوجوه, مملوكات من الأفرنج جهارا.. ماشيين معهن في الطريق نايمين قايمين في بيوتهم.. فكانوا يكادون يموتون من هذه المناظر, وناهيك عن تلك الخمامير التي اشتهرت في كامل الاسواق جهارا, حتي وفي بعض الجوامع ايضا.. هذه الرؤيا كانت تجعل المسلمين يتنفسون الصعداء ويطلبون الموت في كل ساعة.
وأما المؤرخ ج. كريستوفر هيرولد فإنه يرجع اسباب الثورة الي تحريض الطبقة الغنية والوسطي, لأنها اضيرت في تجارتها, ولأنها كانت تتحمل اكبر قسط من الضرائب وهو يلاحظ أن هذه الطبقات ومشايخ الديوان ظلوا بعيدين عن الثورة ويوعز كذلك سببا آخر وهو تحريض بعض المشايخ الذين لم ينالوا الحظوة لدي الفرنسيين كما نالها غيرهم.
......................
.....................
أسأله: كيف بدأت الثورة؟
مولانا يجيب: إنها بدأت بعد توصية الديوان بفرض ضرائب علي العقارات, ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك, والبعض استسلم للقضاء, فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك, ووافقهم علي ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الامور, ولم يفكر انه في القبضة مأسور, فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم, واصبحوا يوم الاحد متحزبين, وعلي الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح, وحضر السيد بدر وصحبته من حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح في الكلام نصر الله دين الإسلام فذهبوا الي قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن علي شاكلتهم نحو الألف فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب, وطلب الهرب فلم يمكنه الهرب.
قلت: أتسمح لي يا مولانا أن أنقل لك ما كتبه المؤرخ العربي نيقولا الترك عن بداية الثورة يوم الأحد21 أكتوبر..1798 لقد قال:
في ذات يوم نهار الاحد في عشرين ربيع آخر نزل أحد المشايخ الصغار وكان من مشايخ الازهر وبدأ ينادي في المدينة أن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الازهر لأن اليوم ينبغي لنا أن نغازي فيه الكفار.
وقد بدأت أحداث الثورة في السادسة صباحا حين ردد المؤذنون من فوق المآذن نداءات الثورة وانطلق بعض الثوار في الشوارع يعلنون الثورة ويطالبون الناس بالتوجه للازهر الذي تحول الي مقر قيادة الثورة.
وبسرعة تكونت مجموعات مسلحة ببنادق عتيقة وبالعصي والسكاكين وأخذت تقيم المتاريس في الشوارع والحواري وتقف خلفها, وبدأت تتقاطر الي القاهرة جموع شعبية من الضواحي القريبة لتشترك في الثورة, وقد احس الفرنسيون بالخطر منذ الساعات الاولي للصباح وأبلغوا نابليون بذلك, الا انه اعتقد انه عمل تافه غير خطير.. وتوجه ومعه بعض قواده لتفقد بعض التحصينات في الروضة ومصر القديمة, وبدأت القوات الفرنسية في التجمع لمواجهة الخطر..
وفي نحو الساعة الثامنة بدأت اول أحداث الثورة العنيفة حين ذهب ديبوي القائد العسكري للقاهرة علي رأس عدد من الجنود لمواجهة الشغب الذي حدث, فقتلته الجماهير الثائرة في الشوارع, فكان بذلك اول من سقط من الفرنسيين, وبدأت الاشتباكات العنيفة بين الطرفين, وفي هذا الوقت أبلغ نابليون بما حدث فرجع سريعا.
وبدأت مجموعات من الثوار تهاجم مراكز الفرنسيين وخصوصا مقر قيادتهم في الأزبكية.. ومهاجمة باقي المراكز والدوريات.. ونجح الثوار في احتلال القسم الأكبر من القاهرة وبدأ عدد القتلي من الطرفين يتزايد في الشوارع نتيجة المعارك الدامية.
وسقط اللواء سولكوفسكي ياور نابليون وعدد كبير من الجنود الفرنسيين, وقاتل الثوار من وراء المتاريس ومن شرفات المنازل, وأدت أبواب الحارات وظيفة السواتر.
وحاول نابليون وقف الثورة وأرسل مشايخ الديوان والعلماء الكبار ليطلبوا من الثوار وقف الثورة, فرفضوا واتهموهم بأنهم صاروا أدوات في يد الفرنسيين, واعلنوا تصميمهم علي مواصلة القتال.
وحين تأكد نابليون من فشل هذه المساعي بدأ يضع خطة القضاء علي الثورة, فأرسل بقواته وطوقت القاهرة لتمنع المتطوعين القادمين من الاقاليم للاشتراك في الثورة, وأصدر أوامره بوضع مدافع علي المقطم والتلال العالية لتعاون مدفعية القلعة في ضرب القاهرة بالقنابل كحل للقضاء علي الثورة بعد أن خسر الفرنسيون كثيرا في معارك الشوارع التي لم يألفوها من قبل, وفي نفس الوقت كان الثوار يستعدون لليوم التالي من أيام الثورة.
بدأ يوم الاثنين22 أكتوبر باستئناف القتال في الشوارع وسقط المزيد من القتلي, ولنا أن نتصور أي بسالة تلك التي كان الثوار يتمتعون بها حين كانوا يهاجمون بالنبابيت المدافع الفرنسية التي كانت تحصدهم حصدا, ومع ذلك كانوا يهاجمون, وعند الظهر بدأت المدفعية الثقيلة ومدافع الهاوتزر والمورتار تصب سيلا من قنابلها علي الأحياء الثائرة, وبدأ الجنود الفرنسيون يتقدمون تحت ستارة من نيران المدفعية ليحتلوا أحياء الثورة شارعا شارعا.. واستمر ضرب المدفعية حتي المساء.
أسأل: وماذا قلت أنت يا شيخ المؤرخين؟
يقول الجبرتي: قلت فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات علي البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الازهر وحرروا عليه المدافع والقنبر, وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين.. فلما سقط عليهم ذلك ورأوه, ولم يكونوا في عمرهم عاينوه.. نادوا ياسلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف, وهربوا من كل سوق ودخلوا الشقوق.
وانه حتي وبعد أن ذهب المشايخ وقابلوا نابليون ليطلبوا منه وقف ضرب المدينة بالقنابل, وما كان من موافقته ونزول المنادين الي الشوارع يحملون هذه البشري.
وأما أهل الحسينية والعطوف البرانية فانهم لا يزالون مستمرين, وعلي الرمي والقتال ملازمين, ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والأفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابل والمدافع الي أن مضي من الليل نحو ثلاث وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا.
قلت: يامولانا هذا يؤكد انه رغم اعلان وقف القتال, وزعم عدم التكافؤ في السلاح, وفي نوعه, فإن اهل الحسينية والعطوف البرانية استمروا يقاومون مدة اخري ولم ينهوا القتال إلا بعد أن نفدت ذخيرتهم.. ولم يكن هناك أدني شك في نتيجة المعركة, لقد قاتل الثوار وقلة منهم مسلحة ببنادق عتيقة وكثرتهم مسلحة بالنبابيت والحجارة, ويواجهون قوات مدربة أفضل تدريب ومسلحة تسليحا حديثا, ولم يكن لدي الثوار مدافع يردون بها علي مدافع الفرنسيين التي ظلت تهدر من الظهر حتي المساء!
....................
...................
مياه كثيرة جرت في نهر النيل, ودماء كثيرة لونت مياهه.. دماء ثوار وجندرمة من كل لون وفرنجة بالبرانيط.
مسرح الأحداث في بر مصر يستعد الآن لبزوغ شمس الثورة الثانية في أقل من عام واحد.
نحن الآن في الشهر الثالث من عام1800 قبل208 سنوات علي وجه التحديد.
قلت لمولانا الجبرتي: الغد غادر نابليون مصر الي فرنسا, وأسند مهام القيادة الي كليبر الذي كان من أنصار الجلاء, وكان يري أن الحملة لا مستقبل لها وسط شعب دائم الثورات في كل مكان, علاوة علي توقف الإمدادات القادمة من فرنسا للحملة بسبب الحصار الذي فرضه الاسطول الانجليزي علي الشواطئ المصرية.. فبدأ يتفاوض مع الاتراك علي الجلاء عن مصر, وتوصل الطرفان الي اتفاقية العريش وبمقتضاها ينسحب الجيش الفرنسي من مصر بمعداته علي سفن تدبرها الحكومة التركية وتتولي نفقات الرحيل, وأن يخلي الفرنسيون مواقعهم بالتدريج, وتحل القوات التركية مكانهم.
وبدأ الاتفاق ينفذ بين الطرفين, ووصلت قوات تركية تقدر بنحو40 ألف جندي بقيادة يوسف باشا الصدر الأعظم الي منطقة عين شمس.
وفي هذه اللحظة تلقي كليبر رسالة من الانجليز يبلغونه فيها بأنهم لا يعترفون باتفاقية العريش, وسيأسرون أي سفينة في البحر تحمل جنودا فرنسيين, وعلي الفرنسيين أن يسلموا أنفسهم كأسري حرب!
وبادر كليبر بانذار الصدر الاعظم بالانسحاب فورا من المواقع التي يحتلها لأن الاتفاقية اصبحت ملغاة.. وجهز قواته وخرج بها, ولم تنسحب القوات التركية, فهاجمها كليبر في20 مارس1800 وألحق بها هزيمة هائلة, وفر الصدر الأعظم وتعقبه كليبر مطاردا, وفي هذا اليوم اندلعت ثورة القاهرة الثانية واستمرت لمدة ثلاثة وثلاثين يوما.
أسأل: لماذا قامت الثورة الثانية؟
الجواب للمؤرخ كريستوفر هيرولد الذي يقول:
علي أن انتصار كليبر في عين شمس كان ناقصا برغم كونه انتصارا باهرا, فبينما كان كليبر يطارد الصدر الاعظم اللائذ بالفرار, افلح ناصف باشا وابنه مع شطر من القوات التركية في الافلات من الفرنسيين ويمم شطر القاهرة, واعلن ان الجيش الفرنسي دحر, وفي لحظة تمرد الاهالي علي الفرنسيين.
قلت: رواية كريستوفر هيرولد تقول بأن سبب الثورة هو دخول القوات العثمانية الي القاهرة وابلاغها الأهالي هزيمة الفرنسيين, مما شجع الاهالي علي الثورة, فهل هذا صحيح يا مولانا؟
يرد الجبرتي بحزم: هذا غير صحيح..الذي حدث أن اهل مصر لما سمعوا صوت المدافع كثر فيهم اللغط والقيل والقال, ولم يدركوا حقيقة الحال, فهاجوا ورمحوا الي أطارف البلد وقتلوا اشخاصا من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا الي أصحابهم.
قلت: يؤيدك مؤرخنا الكبير عبدالرحمن الرافعي في هذا الرأي عندما يقول:
لم يكد يسمع سكان العاصمة قصف المدافع في ميدان المعركة حتي بدأت الثورة في حي بولاق.
وهنا يتضح لنا أن ثورة القاهرة الثانية بدأت بمجرد أن سمع الاهالي صوت المدافع التي دوت في عين شمس بين القوات الفرنسية والتركية, ولم يكونوا علي بينة من نتيجة المعركة, وبالتالي فالثورة ليست بتحريض الأتراك الهاربين من المعركة ولم تكن بسبب تأكد أهالي القاهرة من انتصار الاتراك حتي يتشجعوا علي الثورة.. بل كانت ردة فعل تلقائية, مصرية بحتة, ودليلا علي حيوية الاهالي وتحفزهم للثورة اذا وجدت أي مناسبة.
والثورة بدأت في الصباح, ودخول الفلول التركية والمملوكية الهاربة للقاهرة كان ابتداء من الظهيرة, أي بعد اشتعال الثورة فشاركوا فيها.. لقد كان مجيئهم نكبة علي الثورة لأنهم شوهوا جانبا منها بأعمال السلب والنهب التي مارسوها وبتحريضهم المسلمين ضد المسيحيين.!
..................
.................
التاريخ:20 مارس1800
المكان: حي بولاق قلب القاهرة النابض أيامها..
بقلمه رسم لنا الزميل حسنين كروم ملحمة الثورة:
بدأت الثورة أول ما بدأت في بولاق, فتجمع اهلها تحت زعامة الحاج مصطفي البشتيلي مسلحين بالنبابيت والسيوف وحفنة من البنادق القديمة, وتوجهوا قاصدين احتلال قلعة قنطرة الليمون, ففشلوا, وحاولوا مرة اخري ففشلوا كذلك بعد أن سقط لهم ثلاثمائة قتيل, وبدأوا في مهاجمة المخازن الفرنسية والاستيلاء علي ما فيها, وامتدت الثورة الي كل مكان, وحاول الثوار احتلال مقر القيادة الفرنسية في الأزبكية فأخفقوا ومنوا بخسائر فادحة.
وكان الهجوم المباشر علي المواقع الفرنسية المحصنة خطأ كبيرا, فالثوار المسلحون ببنادق قديمة والنبابيت والسيوف, وعدوهم مسلح بالمدافع والبنادق الحديثة ومتحصن في مراكز حصينة مما مكنه من حصد موجات الهجوم غير المنظمة وغير المسلحة.
اشتد القتال في الشوارع, واصبح الثوار والفرنسيون يتبادلون احتلال المراكز وامتلأت الشوارع بالجثث وازداد قصف المدفعية الفرنسية للأحياء السكنية, وبدا تفوق الفرنسيين واضحا في السلاح وخصوصا المدفعية وكميات الذخيرة, وقد عالج الثوار في البداية انعدام قذائف المدفعية لهم, بأن استخدموا كرات الموازين الحديدية بدلا من القنابل.!
وتجلت عبقرية الثوار وتكاتف الاهالي في هذه الثورة, وكذلك رقي العمل التنظيمي لديهم, فقد أسهمت كل الفئات في الثورة, وكان القادرون يقومون بالصرف علي الثوار غير القادرين ويمدونهم بالمال والمؤن اللازمة لهم, ووجدت لجان تنظم هذه العملية, وكذلك وجدت شبكة اتصال بين الأحياء المختلفة تقوم بإبلاغ باقي الثائرين بالأماكن التي اقتحمها الفرنسيون حتي يرسلوا اليها النجدات بسرعة.
ووصلت عبقرية الجماهير الثائرة الي القمة حين بدأت تعالج مشكلة النقص الشديد في المدفعية وفي الذخائر, فاجتمع الصناع من كل حرفة, وبدأوا في تكتيل جهودهم للتغلب علي هذه المشكلة, وإيجاد حل لها, فبدأوا في إنشاء مصنع لصب المدافع وصناعة القنابل والبارود, وكانوا يجمعون الحديد من شبابيك المساجد ومن الطرقات, ومن كل مكان ويعيدون صهره وتشكيله.
أي أقامت الجماهير صناعات حربية لإمداد الثوار باحتياجاتهم من الذخيرة.
ولقد كان لهذا العمل الشعبي الرائع والخارق لجماهير قريبة لأدني مستوي من الحضارة, اثر في شهادة كليبر نفسه الذي قال: استخرج الاعداء مدافع كانت مطمورة في الأرض وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع وعمل القنابل وأبدوا في كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية.!
أما مسيو مارتان مهندس الحملة فكان مأخوذا ومنبهرا بما يراه من عبقرية الجماهير فقال: قام سكان القاهرة بما لم يستطع أحد ان يقوم به من قبل, فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصناع, وفعلوا ما يصعب تصديقه, ذلك انهم صنعوا المدافع.!
......................
.....................
وفي يوم14 ابريل وجه كليبر انذارا للمدينة بالتسليم فرفضت وجاب الثوار الشوارع يحذرون من دعاة الهزيمة ويحثون الناس علي الصمود في القتال.
وقبل أن تشرق شمس اليوم التالي حدثت أشرس وأقسي معارك الثورة علي الاطلاق في منطقة بولاق, كانت مجزرة دامية, ففي صباح هذا اليوم انطلقت المدفعية الفرنسية تهدر بعنف من عدة مراكز وتصب نيرانها علي المنازل بشكل لم يسبق له مثيل مطلقا, واندلعت النيران في كل مكان, ودفن المئات تحت الأنقاض, ثم وجهت المدافع الفرنسية جانبا آخر من جهودها ضد المتاريس والاستحكامات التي يقف خلفها الثوار وحين تهاوت هذه المتاريس وتلك الاستحكامات بفعل قذائف المدفعية اندفع الهجوم الفرنسي العام من نقطتين, من بوابة أبي العلاء, ومن ناحية النيل, واشتبكوا مع الثوار في قتال مروع في الشوارع, ومن منزل لآخر وشاركت النساء والاطفال في القتال, واستخرج الفرنسيون نوعا اخترعوه من قاذفات اللهب لإحراق المنازل بعد احتلالها.
وفي نفس الوقت استمرت المدفعية الفرنسية تصب جحيما من النيران علي الحي.. لقد كان منظرا دراميا رؤية النيران تلتهم بولاق كلها والعدو يهاجم بقسوة وعنف, والمدفعية تدك المنازل ومراكز الثوار دكا عنيفا دون رحمة.
وبرغم النهاية اليائسة والدامية لنتيجة القتال, فقد رفض الثوار عرضا تقدم به الفرنسيون لوقف القتال واستسلام الثوار, فرفضوا معلنين انهم لن يسلموا, فنشب القتال مرة أخري, وحارب كل طرف بجنون وتهور لا يمكن وصفه, الي ان احتل الفرنسيون الحي العتيد بعد أن صار أنقاضا.
ويصف لنا المسيو جالان وهو أحد شهود هذه الموقعة يصفها وصفا دقيقا فيقول: في يوم18 ابريل شن الفرنسيون آخر هجوم كبير لهم علي الثوار في الناصرية وباب الشعرية ومنطقة المدابغ وباب اللوق والفجالة وكوم أبي الريش, وبرغم عنف الهجوم, والإنهاك الذي تعرض له الثوار, فإن الهجوم فشل علي الناصرية والمدابغ, واستمر القتال الوحشي في الشوارع والمنازل مدة يومين متتاليين.
مولانا الجبرتي يقول في أسي:
لقد كان ضروريا أن تتغلب القوة والتفوق العسكري في النهاية, وهكذا انتهت الثورة العظيمة التي امتدت ثلاثة وثلاثين يوما.!
..................
..................
ويبقي الثوار وسيرهم وحكايتهم مع الفداء والوطن.. فمصر طوال عمرها ولود ودود.. لم تتوقف الأم المصرية يوما عن تقديم أولادها فداء وقربانا لمصر.
وإذا كان التاريخ يكتبه المؤرخون دائما بأسماء الملوك والسلاطين والأباطرة والقياصرة ومن جلس علي العروش ومن لبس التيجان وسكن القصور واقتني الجواري والقيعان.. كما قال نابليون بونابرت..
أليس من حق الثوار الذين حاربوا حتي آخر قطرة من دمائهم وخلصوا مصر من آخر الفراعين الظلمة ومعه هامان وزير داخليته الذي قتل هو وزباينته شبابا في عمر الزهور كل ذنبه أنه أمن بمصر ورفع علم مصر... علينا اليوم أن نحكي حكايتهم مع الدم والتراب والوطن.. وأن نرفع أيدينا بالتحية لهم.. وتعظيم سلام للثوار{.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.