\r\n الفرنسيون يعرفون كمال اتاتورك كمؤسس للجمهورية التركية. والدستور الكمالي لعام 1924 ينص على «ان الدولة التركية دولة جمهورية وطنية وشعبية ودولانية وعلمانية وثورية» (المادة 2). وهو يؤسس ايضا لحرية الضمير والدين (المادة 70 و75) اما الدستور الأخير الذي اعده العسكر عام 1982 فانه يستخدم كلمات ثلاث «دولة ديمقراطية وعلمانية واجتماعية» (المادة 2)، هذا الدستور الاخير يؤكد الحقوق والحريات (المادة 12، 14 الى 26). فمنذ عهد مصطفى كمال اتاتورك أنشئت مديرية للشؤون الدينية مرتبطة مباشرة برئيس الحكومة وتمارس مراقبة على الدين (وهي المراقبة التي امتدت اليوم الى التعليم الديني في المدارس) ويشرف على هذه المديرية رجل دين من الطائفة السنية. \r\n والحال ان هذا هو اول موضوع للتساؤل، فبينما يشكل العلويون (تيار اسلامي منبثق عن الشيعة) ما يقرب من ربع السكان الاتراك ورغم وجود اقليات يهودية ومسيحية مما يجعل هذا المجتمع مجتمعا متعدد الاديان فان العلمانية التركية تمنح الاحتكار الديني للطائفة السنية ذات الاغلبية والمرتبطة بحكم حجمها بالدولة. فالأئمة السنة يتقاضون رواتبهم من قبل الدولة، بينما تعاني بقية التيارات المسلمة من فوارق واضحة في الرواتب. \r\n فالعلمانية التي بنتها فرنسا بكثير من العناء والمشقة علمانية تقوم على المساواة ما بين كافة الاديان، في تعددية متفق عليها، والفصل ما بين الدين والدولة الذي أسست له الجمهورية التركية التي يحرسها الجيش بكثير من العناية يفترض في فرنسا الاستقلال الحقيقي للأديان المرهون بعدم التمويل العمومي للعبادات، والمركز الاساسي لأتاتورك الذي فرض العلمانية والجمهورية بيد من حديد، يجعل من وجهة النظر هذه قضية جديرة بالاهتمام حقا! \r\n في منتصف القرن العشرين كان رجال الدين يحظون بالاعتراف ببعض التعددية الدينية التي جعلتهم يظهرون شيئا فشيئا في الحقل الاجتماعي تم تدريجيا كما هو الشأن اليوم في الفضاء السياسي، وقد كان هذا الوضع مصدر العديد من القضايا التي أهملت كثيرا في اوروبا. وموازاة مع ذلك فمن المؤكد ان الجمهورية التركية قد تعرضت في مناسبات عديدة لهزات عنيفة لم تنقذها منها سوى الانقلابات العسكرية. فالحاصل اذن ان العلمانية التركية تبدو مدعومة على حساب الحريات. ولذلك فالمسألة الملحة على كل الحوارات الجارية في الوقت الحالي هي: هل الانتصار الذي حققه بشكل ديمقراطي الحزب الاسلامي «حزب العدالة والتنمية» يشكل على المدى المنظور او البعيد خطرا على العلمانية اولا ثم على الحريات أخيرا؟ أم اننا بصدد ظاهرة شبيهة من بعض الاوجه بالديمقراطية المسيحية في فرنسا وفي اوروبا بوجه عام؟ \r\n ان مبدأ العلمانية ينطوي بالطبع على فكرة المجتمع المستقبل الذي لا يستند الى اي مبدأ ديني، فضلا عن افتراض تحرر الدين نفسه من كل تدخل للدولة في تنظيماته. فمبدأ العلمانية يقوم اذن على فكرة تقلص السلطة السياسية التي تفتح للحياة الروحية حرية كاملة. ونضيف الى ذلك ان العلمانية الصحيحة المفهومة حق الفهم تفترض تنازل كل طائفة دينية عن التدخل المباشر في الفضاء العام بصفتها حزبا سياسيا. \r\n لا شك ان التاريخ العلماني لتركيا تاريخ ثري حين ينظر اليه من حيث طول المدة ومن حيث تعدد الفضاءات الاجتماعية المعنية، فتاريخ القانون وتاريخ المؤسسات التعليمية والصراعات التي تحدث احيانا ما بين الدولة والمجتمع عوامل تحمل الكثير من الاهمية في فهم تركيا الحالية، لأن دستور العام 1982 يكرس الاسلام اساسا قويا لبناء الوحدة الوطنية. ولذلك صار التعليم الديني والاخلاقي اجباريا في الطور الاساسي والثانوي، وبذلك تتعمق الرؤية الدينية في المجتمع وفي الفضاء السياسي على السواء. ولذلك فمن الصعوبة القول في هذه الساعة الى اين تسير العلمانية في تركيا. كما اننا لا نستطيع ان نسبق الاحداث ونحسم في امر تعايش هذه العلمانية ونمو الديمقراطية في تركيا الذي ينطوي بالضرورة على مخاطر الانتصار الذي قد يحققه في النهاية أعداء الحرية وأعداء العلمانية. \r\n غير انه امام التحدي الاسلامي تظل تركيا هي المرآة التي ينعكس عليها مستقبل العلمانية الفرنسية ومستقبل العلمانية في أوروبا كافة. \r\n \r\n * فيلسوف وكاتب فرنسي \r\n لوفيغارو