نقلاً عن : جريدة الأهرام 02/05/07 تشهد السياسة التركية عملية اختيار الرئيس الحادي عشر للبلاد فيما يبدو وكأنه صراع بين عوالم الأشخاص والمؤسسات والأفكاروالمنتج النهائي لهذا الصراع سيحدد صيغة العلمانية التركية القادمة. ولتبسيط الصراع السياسي هناك يمكن التركيز علي شخصومؤسسة وفكرة. أما الشخص فهو رجب طيب أردوغان والذي أصبح كما يقول العديد من المحللين السياسيين الأتراك أهم شخصية سياسية تركية بعد كمال أتاتورك نفسه وأما المؤسسة فهي مؤسسة الرئاسة بما تحمله من قيمة كبري في تغيير بوصلة الدولة التركية وأما الفكرة فهي العلمانية والتي استقرت كمادة في الدساتير التركية المتعاقبة لكنها تأخذ صيغا ثلاثا وفقا لتفاعلات الأشخاص والمؤسسات علي نحو ما تفصل هذه المقالة. ولنبدأ بالشخص فهو رئيس الوزراء الحالي الذي نجح ورفاقه في أن يتوغلوا برفق في مؤسسات الدولة التركية بحنكة تحسب لهم كجزء من استراتيجية ثنائية الأبعاد تجمع بين تجنب الصدام وتراكم المكسب البطيء. فقد تجنب أردوغان كافة المواقف الصدامية التي يمكن أن تعطي للقوي العلمانية الفرصة للنيل منه والقضاء عليه. فقد كان الرجل قادرا علي التوغل دون أن يسقط في الشرك أو أن يضبط متلبسا ب'إسلاميته.' فرغما عن أنه كان من أشد المعارضين للعلمانية صراحة قبل عام2000 وكان جزءا من برنامجه الانتخابي رفع القيود علي الحجاب, لكنه لم يدخل في صدام حقيقي من أجل تحقيق هذا الهدف بل قال صراحة:' لقد تغيرت.' ومع أن الرئيس الحالي نجدت سيزار ضرب الرقم القياسي في الفيتو ضد مشروعات القوانين ومع ذلك رفض أردوغان الاقتراحات بالتصعيد ضد الرئيس بالذهاب إلي الاستفتاء مثلا. بل إن خروج المظاهرات ضد ترشيحه رئيسا للجمهورية لم يقابل منه إلا بالتخلي طواعية عن حلمه القديم بأن يجلس علي مقعد أتاتورك وفضل أن تنتصر الفكرة علي أن ينتصر الفرد. وقد رشح نائبه عبد الله جول للمنصب الرفيع.وتبني الرجل بحنكة أيضا استراتيجية المكسب البطيء بأن أغرق الإدارات الحكومية بآلاف الموالين لحزبه, واستغل النزعة العالمية نحو رفع شعارات حقوق الإنسان بما فيها حرية الاعتقاد والتدين فضلا عن سعي تركيا نحو الانضمام إلي أوروبا الموحدة منذ أكثر من أربعين عاما في دعم حقوق المواطنين المتدينين في تركيا. بل إنه اتخذ من إعلانه الالتزام الصارم بمعايير كوبنهاجن أساسا لتقليص دور المؤسسات غير المنتخبة ديمقراطيا, مثل المؤسسة العسكرية, في تعطيل قرارات المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا. وتجنب حزب العدالة وصف نفسه بأنه حزب' إسلامي' وإنما هو حزب' محافظ' يدافع عن التقاليد الثقافية للمواطن التركي الذي انتخبه في إطار النظام العلماني. ومن هنا جعل أردوغان هدفه المعلن إقامة' علمانية حقيقية تضمن الحريات الدينية والشخصية' باعتبارها جزءا من سعي تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي. ولا شك أن أردوغان سياسي غير مرغوب فيه من العلمانيين الكماليين الذين لا يريدون سماع مثل هذه الأفكار لأنها لا تجعل منه امتدادا للخطر الأصولي يسهل استهدافه. هذا عن الشخص فماذا عن المؤسسة؟ بنية نظام الحكم في تركيا تجعلنا أمام خمس مؤسسات كبري: الرئاسة, البرلمان الحكومة, الجيش, المحكمة العليا. يحكم علاقة هذه المؤسسات بعضها ببعض الدساتير التي أقرت منذ دستور1928 وبإجماع البرلمان تعديل بعض مواده وعلي رأسها إلغاء عبارة' الإسلام دين الدولة' وتعديل نص القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية والنواب بحذف لفظ الجلالة' الله' من القسم واستبدالها بكلمة' بشرفي.' وهو نفس العام الذي تم فيه تغيير الحروف والأرقام إلي اللاتينية. وفي عام1937 أقر البرلمان التركي إضافة وصف' علمانية' للدستور. واستمرت الدساتير التركية اللاحقة(1961 و1982) تؤكد علي نفس الصفة في المادة الثانية. وقد جعلت من الجيش في المادة35 حاميا لهذه القيم.وقد حل البرلمان بمباركة من رئيس الجمهورية والمحكمة العليا ثلاث مرات في أعوام1971,1960, وفي عام1980 تحت شعار حماية العلمانية. وقد كان العلمانيون الأتراك في حالة قبول نسبي بفكرة أن يسيطر حزب العدالة والتنمية علي اثنين من المؤسسات الخمس( البرلمان والحكومة), لكن إعلان الحزب عن اتجاهه لترشيح أحد قياداته رئيسا للجمهورية أشعرهم بالخطر علي التقاليد العلمانية. وهم في هذا محقون, فعكس ما يشاع عن أن منصب رئيس الدولة في تركيا منصب شرفي لكنه رمزيا الموقع الذي احتله مصطفي كمال أبو الأتراك كما أنه, فعليا المنصب الذي يملك الفيتو علي قرارات البرلمان بحيث تحتاج أغلبية الثلثين لإعادة تمريرها ويلعب دورا محوريا في تعيين قضاة المحكمة الدستورية( وهي معقل هام من معاقل الكماليين) وهو القائد الأعلي للقوات المسلحة( اليد الباطشة للكماليين) وهو الذي يصادق علي تعيين السفراء وهو الذي يعين مجلس التعليم الأعلي ورؤساء الجامعات وهؤلاء كانوا تاريخيا تلاميذ مخلصين للتقاليد الكمالية والمحافظين علي واحدة من أهم مؤسسات التنشئة العلمانية في المجتمع. هذا عن مؤسسة الرئاسة ماذا عن الفكرة؟ إن العلمانية التركية مستمرة لا محالة لكنها سترتدي ثوبا جديدا إذا وصل عبد الله جول إلي منصب رئيس الجمهورية. فهي مستمرة بحكم أن العلمانية منصوص عليها في الدستور في واحدة من مواد ثلاث يطلق عليها إسم مواد' فوق دستورية' أي لا يمكن تعديلها دستوريا. لكنها سترتدي ثوبا جديدا لتتحول من علمانية'ضد الدين'(againstreligion) بصيغتها السوفيتية والتركية الكمالية والتي تري أن الدين في ذاته خطر وأن التدين مؤشر تخلف. وهي الصيغة التي سادت طوال حكم أتاتورك والتي لحقت بها' علمانية بعيدة عن الدين'(fromreligion) وهي صيغة علمانية لاحقة علي الفترة الكمالية تخشي من أن الدين لا يمكن أن يظل بعيدا عن المجال العام وبالتالي لا بد أن تتدخل الدولة من آن لآخر كي تضمن أن يلازم الدين مجاله الخاص. ومثال ذلك تحريم الحجاب في المؤسسات العامة علي النمط الفرنسي أري أن وصول جول المحتمل إلي الرئاسة سيفتح المجال إلي تعديلات كثيرة يمكن أن تنقل تركيا إلي نمط ثالث من العلمانية وهو نمط العلمانية الليبرالية التي تؤكد علي' حرية الدين'(freedomofreligion) وهي النموذج الليبرالي الأصيلكما هو في الصيغة الأمريكية حيث تحترم الدولة المجالين الخاص والعام تماما بضابطين اثنين وهما ألا تشرع الدولة باسم دين أو مذهب علي حساب غيرهما ولا تسمح الدولة بأن يكره المجال العام شخصا علي الشعور بالحرج من التعبير عن رموزه الدينية أو تبني دين دون آخر. فالدولة تتدخل بالتشريع لحماية حقوق الأفراد ولا تري أن عليها مسئولية إجبار أحد علي التخلي عن رموزه ومعتقداته ولكنها تهدف إلي التعايش بين الجميع. إن هذا التحول في العلمانية التركية يبدو تصحيحا للعلمنة المفتلعة التي جاء بها أتاتورك حيث إنها لم تكن نتيجة عصر تنوير يشبه النمط الأوروبي. وهكذا تتفاعل حنكة الشخص مع البنية المؤسسية في إعادة انتاج الفكرة العلمانية التركية. لكن تهديد الجيش الضمني بأنه' مدافع شرس عن العلمانية' وأنه' سيتدخل في حالة الضرورة' لا يزيد الأمور إلا تعقيدا. فهو قد يحافظ علي العلمانية غير الليبرالية ولكن بثمن باهظ للغاية وهو تدمير الديمقراطية التركية والابتعاد أكثر عن هدف الانضمام للاتحاد الأوروبي بل وخسارة السمعة العالمية التي حققتها تركيا كدولة مدنية حديثة. كما أن المحكمة العليا تجد نفسها مدفوعة بالحكم في القضية بلا جريمة أو جناة حقيقيين. فأردوغان ورجاله لم يخرجوا عن أي قاعدة دستورية مستقرةبل إنهم قد كسبوا في السنوات الأربع الأخيرة دعما داخليا وخارجيا يجعلهم في موقف الاختيار الأمثل لأغلبية الأتراك والكثير من حلفاء تركيا في الخارج, لا سيما مع التشرذم الشديد الذي تشهده الأحزاب العلمانية الأخري.