حاولوا أن تتخيلوا سجن الموت الرهيب «تازمامرت» أو معتقل «درب مولاي الشريف» وقد تحولا إلي أوتيل خمس نجوم أو مكان لا يمكن أن يلجه سوي علية القوم. قد يبدو هذا صعب التخيل في المغرب، لكن في تركيا المستحيل ممكن. أكيد أنكم تتذكرون اللقطات العنيفة في فيلم «ميدنايت إكسبريس» الذي خلد لسجون تركيا. نادرا ما كان لفيلم كهذا تأثير علي صورة بلد بأكمله. ستفاجئون حين تعلمون أن السجن العثماني القديم الذي صور فيه المخرج «آلان باركر» فيلمه قد تحول إلي أجمل فندق بإسطنبول عاصمة تركيا. هذه هي تركيا حالياً، تضع الكليشيهات التي تلوكها الألسن عنها قيد الامتحان. تركيا بلد 75 مليون نسمة تتغير، التحديث سريع فيها وعلي كل الواجهات. اقتصادها ينمو بسرعة جعلته يصبح خامس اقتصاد عالمي، تفوق إنتاجيته ما تنتجه الدول العربية مجتمعة. في الوقت نفسه، هذا البلد الذي يحاذي القارة الأوروبية، لم ينل بعد لا رضي ولا عدم رضي حول الانضمام لاتحاد القارة العجوز. تركيا أضحت ديمقراطية يرفع عنها الجيش يد تحكمه تدريجياً. هذه هي الإمبراطورية التي تحولت إلي دولة. إنها الدولة التي قطعت مع الخلافة الإسلامية وتبنت النظام العلماني. منذ سنة 2002 أصبح حزب للإسلاميين يسير حكومة هذه الدولة العلمانية، لكنهم ليسوا كإسلامي المغرب. إنهم، إن شئنا القول، إسلاميون عصريون، لكنهم يفضلون أن يسمّوا أنفسهم بإسلاميين ديمقراطيين، يحترمون حقوق الإنسان، الحريات الفردية وقانون السوق. ثانوية الحداثة نحن الآن في «بيوكلو» هذا الحي لا يبعد سوي 20 دقيقة عن سجن «سلطانة حامي» القلب التاريخي لإسطنبول. هنا عالم مغاير، إنه معقل للحداثة. يمكن أن تصل إليه عن طريق ساحة تاقسيم التي تعتبر كجزيرة معزولة وسط زحمة السيارات. وسطها يرتفع المعمار الذي بني اعترافا ببطل حرب الاستقلال التي انتهت سنة 1928. المعمار يتكون من لوحة لأب تركيا الحديثة أتاتورك وأصحابه ولوحة أخري تمثل الأمة علي شكل أسلحة. الساحة مفتوحة علي أكبر منطقة للمحلات التجارية بإسطنبول. منطقة لا يمكن أن تزورها إلا وأنت راجل. الساحة مفتوحة كذلك علي شارع الاستقلال الذي يبلغ طوله عدة كيلو مترات ويصل إلي المدينة الأوروبية ويمر عبر ثانوية كلتاسراي. هنا بهذه الثانوية أخرج إلي الوجود سنة 1995 «علي سامي يان رفقة» مجموعة من الطلبة فريق تركيا الشهير «كلتاسراي». بثلاث وثلاثين مليون مشجع، «كلتاسراي» هو النادي الأكثر شهرة خارج تركيا والفريق التركي الوحيد الذي فاز بكأس أوروبية. ولكن قبل أن يصبح فريقاً معروفاً، كلتاسراي هو في البداية ثانوية. وليس أي ثانوية. هذه المؤسسة التعليمية التي بناها السلطان عبدالعزيز سنة 1868 تحولت إلي مدرسة مزدوج فرنسية تركية، لتكون مركزاً لنشر أفكار الحداثة والمشتل الذي سيتعلم فيه علية تركيا ومن أسسوا جمهورية كمال أتاتورك. هل روح تفكير أتاتورك بتشدده العكسري لم يعد لها مكان في حي بيوكلو؟ منذ الوهلة الأولي، يمكن أن تظن ذلك، لأن الأزقة المتاخمة للمنطقة التجارية تمثل مكاناً يغري بالمتعة هناك أروقة فنية، بوتيكات تضم الماركات العالمية وعلي الخصوص مقاهي ومطاعم، وبارات تقبل عليها الأوساط الراقية بإسطنبول. هنا الشباب والشابات يدخنون، يشربون البيرة ويلعبون الدومينو. بيوكلو عاصمة شباب تركيا الحديث وكاينين البوليس. اجتماعياً، تركيا تبتعد بالكثير عن العالم العربي. تركيا جمهورية علمانية ضمنت لنسائها الحق في الزواج المدني منذ سنة 1920. سياسياً الفرق يقاس بالسنوات الضوئية سنة 2001 سيعرف البلد تغييرا سياسياً لم يشهده بلد عربي بعد. الوزير الأول الحالي لتركيا رجب طيب أردوجان وعبدالله جول اللذان كانا يمثلان الجناح الإسلامي المعتدل، سيغادران حزب «الفضيلة» الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان وسيؤسسان حزب «العدالة والتنمية». سنة بعد ذلك، سيفوز الحزب الفتي ب 34 في المائة من الأصوات. حكومة أردوجان ستدافع عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وستخرج البلد من أزمة اقتصادية، ليبدأ اقتصادها في تحقيق نسبة نمو سنوية تعادل سبعة في المائة. سنة 2007 حزب أردوجان سيفوز ب 47 في المائة من الأصوات وسيتمكن من فرض عبدالله جول رئيساً للجمهورية. كما سيتمكن من تمرير قانون يسمح باختيار الرئيس التركي عن طريق صناديق الاقتراع. تركيا ستخرج من عزلتها، لتصبح لها كلمتها في العلاقات الدبلوماسية بالمنطقة. كيف استطاع حزب إسلامي أن ينفذ هذه الثورة الهادئة داخل نظام علماني؟ حزب إسلامي وعلماني حزب «العدالة والتنمية» التركي يطلب نوعاً من المحافظة، لكن دون مرجعيات إسلامية رغم خطابه الأصولي أحياناً عن المرأة فإنه لم يسبق له أن عارض الحريات الفردية. «إنه حزب يشد الكل، مما سمح له أن يتموقع كحزب وسط اليمين»، يقول ديدي بيليون الباحث في معهد العلاقات الدولية الاستراتيجية الفرنسي: العلمانية التي فرضها أتاتورك منذ سنة 1937 ساهمت في صنع رأي مدني متميز ونقيض للرأي المدني العربي. العلمانية غيرت المجتمع التركي، وفي الوقت نفسه تفرض علي الفاعلين السياسيين والمؤمنين أن يعيدوا التفكير في توجههم «في البداية كانت الحركة الإسلامية التركية تطالب كما هو الحال بالنسبة لمثيلاتها في العالم العربي، بعودة دولة الخلافة وتطبيق قانون الشريعة ولكنها بسرعة استطاعت أن تتأقلم مع النظام وجربت المشاركة السياسية مع احترام تعدديتها في هذا المسار استطاعت أن تتحول» يشرح جون ماركو الباحث في المعهد الفرنسي للأبحاث الأناضولية بإسطنبول علي بايراموكول هو واحد من كتاب الرأي الأكثر شعبية في الصحافة التركية. هذا الوجه اليساري المعارض رغم علمانيته فإنه يكتب في صحيفة «ياني سافاك» القريبة من حزب العدالة والتنمية هذا الملاحظ المفضل لدي الحركة الإسلامية يري أنه بعيدا عن المبادئ الكبري، فإن إكراهات الواقع دفعت اليمين الديني بتركيا إلي أن يتأقلم مع النظام القائم ويعطي المثال ببورجوازية كيونا، المعقل التقليدي للمحافظين، والتي بدأت تعطي بالظهر للمبادئ الجد متشددة في ما يخص التمويل الإسلامي، لأنها ببساطة لم تعد صالحة للوقت المعاصر. لقد شاهدنا حركة مزدوجة. الاقتصاد استقل عن الدين والسياسة. كذلك العلمانية الإسلامية التركية هي مكسب مهم جدا، لأنها نتيجة تحول من الداخل يقول كاتب الرأي نفسه: في الوقت الحالي حزب العدالة والتنمية التركي هو حزب شعبي ويلتصق بطموحات سكان المدن المتعلمين الذين يتمنون إطارا للحياة أفضل ويحملون الهم لمستقبل أبنائهم. هذه الحركة استطاعت أن تجسد إرادة الطبقات المتوسطة الجديدة والتي كانت مهمشة من قبل في عهد كمال أتاتورك بطبيعة الحال، فهي تقدم الإسلام كمكون قوي للهوية لكن ليست القيم هي حصانها الرابح بل إنجازاتها من طرق جديدة، خلق فضاءات عمرانية، تعميم الخدمات الاجتماعية هي التي تفسر نجاحها. يحلل جون ماركو بطريقة أخري رغم أن هذا الرأي يمكن أن يثير حفيظة وشكوك النخبة العلمانية في تركيا فإن حزب العدالة والتنمية التركي حل عقد المسلمين بنفس البلد، لا أعتقد أن هنالك نساء محجبات أكثر من الماضي، الفرق هو أنه في الماضي كن لا نراهن لأنهن كن حبيسات المنزل، أما في الوقت الحالي فخرجن لسوق العمل، واجتحن الفضاء العام ويمكن أن تجدهن حتي في أحياء بيوكلو الجميلة يضيف علي بايراموكول. نفس طويل رغم أن تركيا توجد في مرحلة تعلم طريقة جديدة في التعايش بين ما هو علماني وما هو ديني، لكن الحجاب مازال ممنوعا في المدارس والجامعات، حكومة العدالة والتنمية التي حاولت أن ترمي بحجر وسط بحيرة الماء الراكدة هاته لم تستطع أن تحقق شيئا سنة 2008 وعد الحزب الانتخابي بتعديل القانون الذي يمنع الحجاب في المدارس والجامعات وجد أمامه فيتو المجلس الدستوري الذي يهيمن عليه حفدة من يحفظون إرث كمال أتاتورك، لكن حزب العدالة والتنمية مازال لديه نفس طويل من أجل النضال. الحزب يراهن في السنوات القادمة علي إنجاز دستور مدني حقيقي ليعوض الدستور الذي ساهم سنة 1982 العسكر في سن الكثير من بنوده، حزب العدالة والتنمية استطاع أن يزيل رهبة العسكر عن النفوس. فهل يستطيع أن يزيل تلك الرهبة عن المؤسسات؟ وهيمنته كحزب وحيد علي الحياة السياسية التركية هل من الممكن أن تقوده إلي سلك طرق سلطوية أكثر؟ عن هذه الأسئلة يجيب الأستاذ الجامعي سانكيز أكتار قائلا: الديمقراطية هي سيرورة. هي فن ركوب المخاطر إذا لم يكن هناك من يقف أمام سلطة العسكر ويخرجهم بالمرة من الحياة السياسية فإن المجتمع لن يتقوي والسياسة لن تبلغ سن الرشد. لكن أظن أن تركيا قادرة حاليا لوحدها أن تضمن نظامها السياسي. وما أقوله ينطبق علي العلمانية، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات والديمقراطية بصفة عامة. عن مجلة «نيشان» المغربية