كانت قد نتفت شواربها في صباح اليوم، وهو لم يجد وقتا حتى ليغسل وجهة. صديقهما الثالث، لا يشعر بمن حوله، السماعات في اذنه تكفلت بعزله عن ضوضاء المترو، هي على الأقل وقفت امام المرآة نصف ساعة ليحمل وجها كل تلك المساحيق المنمقة، بينما صاحبتها على يمينها مباشرة لم تصفف حتى شعرها. هي غارقة في احد الروايات الرومانسية، احد تلك الروايات التي كان صاحبنا يقول ان الوقت المناسب لها هو الحمام، و إن لم يفعلها ابدا. صاحبها على اليسار، انخرط في رواية خيال علمي، واخرى تتابع آخر اصدارات العاصمة العالمية باريس. كلهم وجوههم عابسة، تائهة، ضائعة. رائحتهم خليط من جيل الاستحمام و رائحة العرق و العطور. اعينهم تائهة... حتى اولئك الذين قذفتهم الأقدار لتلك البقعة من الأرض هربا من الجحيم في افريقيا. منهم من تغير حاله، ربما اصبح هو نفسه فرنسيا خالصا. و منهم من تعف الانفس عن الاقتراب منه، رائحته تنفر الكلب الشريد. سيضمهم جميعا نفس المترو، كل صباح، كلٌ في ملكوته. أنا لم أكن منتبها أكثر من اليوم، يكاد رأسي ينفجر من كثرة الدماء التي تدفع إليه، و لا أظن احدا منهم يفكر اساسا في قاذفة القنابل التي ذهبت بالأمس لمالي. من يهتم؟! و كأنها أحد حروب العصور الوسطى، قاذفة نابالم تكفي، لهؤلاء الرعاع. هل يدرك اي من هؤلاء ان أموالهم في المساء كانت قنبلة وضعت على رأس ام ووليدها ك collateral damage و خلاص. مات الطفل. ماتت الأم. من قتلهم؟ ألم تكن فرنسا الجميلة؟ باريس بأضواءها؟ ألم تكن تلك الأموال التي ادفعها انا شخصيا للضرائب؟! لماذا لا يحترم حتى موتهم، مالها الطائرات بدون طيار؟ لا أسئلك عن اكثر من ذلك، على الأقل حتى يشعر المرء ان لهم قيمة... اي قيمة. أمريكا تكفلت بالمواصلات لمالي.... الأزمة بسيطة و قاذفة قنابل تحلها. قليل من النابالم يطهرها يا شيخ. إلى كل هؤلاء الرعاع في كل جحر في الارض، أحبائي، لا يعبأ أحد بحياتكم. و سيتم تصدير اسوأ انواع الأسلحة و اقدمها لسحقكم بكل رأفة و سعادة، بينما جموع الشعب الأمريكي تتغنى في احتفالية استقبال أوباما في فترته الجديدة، آلاف يصفقون في احتفالية مجيدة، سينفقون الوقت في مباراة كرة عظيمة، أو تتجمهر الجموع لعدد من ضحايا تعذيب مستحضرات التجميل... من الحيوانات، أو تتفقد آخر العطور الفرنسية. من يهتم بكم؟ أنتم رعاع الأرض. روحكم لا تساوي شيئا. حياتكم، أحلامكم، أطفالكم... كل ما كسبتم... هراء. غدا نبيت تحت نعل أمريكا، أو فرنسا. صدقا، لن تختبر القنابل اي ايدولوجيا كنت تحمل في رأسك، لا، لن يهم إن كنت ليبراليا أم إسلاميا أم علمانيا... أو حتى عم شمندي بياع البطاطا الذي لا يعرفه أحد. سيسحقوكم بينما يقام حفلا ساهرا على شرف امتصاص ثرواتكم... لأنكم جهلة، و لأنكم ضعفاء، و لأنكم تحلمون بلا عمل. و لأن قائدكم غير صادق، ولأنكم فيما بينكم تأكلون بعض كما تأكل النار نفسها حتى تموت. إلى كل أولئك المتغنيين بالأيديولوجيا، أحلم بالمصلحة التي تجمع بلادنا جميعها. بالقوة التي تمنع أن تخطو أمريكا على جباهنا ليل نهار، بالقدرة التي تعجز الفرنسيين. بالخط التجاري الذي يصل الشرق بالغرب. بالتعليم لكل الجهلاء في ارجاء الوطن. بالتقبل لكل المختلفين في نفس الارض، بالهجرة لأيما أرض قبلت مجهودي لمشروع "الخلافة" ولو كان طوبة... ولو كان زلطة. أحلم بتلك الخلافة التي جمعت أشلاء امريكا بعد حربها الأهلية، بتلك الوحدة التي جمعت اوروبا بعد 30 مليون قتيل، بذلك العزم في قرية العقربة البدوية الفلسطينية التي هدمها الصهاينة 40 مرة، أحلم بقوم غيركم... قوم ليس فيهم بلال فضل اصطباحته تكسر عظامي اكثر ما يكسرها الاحتلال و الدم و القتل و الضعف الذي أعيشه. احلم بقوم غيركم في أي ارض. أحلم بهؤلاء الثلاثين ألفا الذين باتوا في التحرير ليلة الجمل بينما نمت أنا على سريري في أوروبا. أحلم بهؤلاء القلائل الذين لا يرضون الضعف، ولا يطلبون كثيرا.... لا أطلب كثيرا، اريد أرضا تقبلني بدون دم. بدون نطاح، بدون حرب. اريد خلافة ولو في قرية صغيرة... مفتوح ابوابها لكل صاحب فكرة، موصولة أوصالها بكل قلب ينبض بالأفضل لقومي و كفى. بالمصلحة. أتعييك المصلحة؟! لا أطلب أكثر من أن يحلم أولادي احلاما يروها في الكبر... لأنه حقهم علينا. لا أطلب كثيرا. أطلب أن أموت و أهلي بشرف طالما موت بموت... لا تحت قاذفة نابالم من العصور الوسطى. نعم أحلم بالخلافة، غير التي في رؤوسهم، بالحرية... التي لم نحصل عليها بعد. احلم بانتزاع بسمة اولادي من الدنيا قبل أن أموت. حقي.