لا تعتمد على أن الروائى الكبير بهاء طاهر قد انشق عن عزلته وفقد كثيرا من تشاؤمه كى تجرى معه حوارا أدبيا، فالرجل الذى لبى نداء التحرير ومن قبله نداءات «كفاية» ونداءات قديمة تنزلق عبر أيامه فى المدرسة الابتدائية القريبة من أحداث كوبرى عباس. بهاء طاهر بهاء طاهر الذى صار متاحا فى الشوارع والمقاهى والمنتديات وعبر الفضائيات والصحف لم يعد يهوى الحديث عن الرواية والجماعة الأدبية المنتمية للناس أو حتى المنتمية للحكومات والأجهزة وراح يفضل الكلام عن مصر وأيامها الثمانية عشر الأكثر تأثيرا فى التاريخ والضمير لكنك تستطيع أن تفتح له نافذة أخرى للبوح أو كوة للدفء أو الذكريات عليك أن تردد أمامه «كلمة السر» كى يفتح لك الكهف المغلق ليس عبر جملة «افتح يا سمسم» لكن عبر جملة «باعتبارك» أى باعتباره دارسا للتاريخ وباعتباره صاحب روايتى «بالأمس حلمت بك» و«شرق النخيل» بالذات وباعتباره عاش فترة مهمة من حياته فى سويسرا ثم باعتباره أحد صانعى ثورة 52 يناير. باعتبارك حاصلا على ليسانس آداب قسم تاريخ من جامعة القاهرة عام 6591 كيف تشابهت مشاهد ثورتنا «الينايرية» مع غيرها من ثورات فى مصر أو فى أى مكان آخر فى العالم عبر أى زمان حديث أو قديم؟ - هى ثورة فريدة من نوعها لكنها تتشابه فى بعض مشاهدها مع بعض ثورات أخرى. فالأعداد المهولة للثوار الذين ملأوا ساحات مصر تتشابه مع تلك الملايين الذين خرجوا فى طهران ضد الشاه كما أن وقوف الجيش إلى جانب الشعب يذكرنى بالثورة التونسية العظيمة وتشبه الثورة الفرنسية فى عدم وجود قيادة موحدة ومع ذلك تظل ثورتنا المصرية فريدة فى أكثر من ناحية ولا يوجد ما يماثلها فى تاريخ الثورات العالمية كلها. حقا مازلت متفائلا؟ - نعم فهذه القوة الشبابية والشعبية التى فاجأت العالم قادرة على أن تفاجئه مرة جديدة إذا لم يحدث ما يرضيها بمعنى إننى لا أتوقع أبدا أن يعود استبداد أو فساد على النحو الذى عشناه عبر الثلاثين عاما الماضية فقد عرف الشعب طريقة التخلص من الذل والهوان. لكنك حزين؟ - نعم حزين من أجل كل الشهداء الذين ماتوا ولا نعرف أعدادهم الحقيقية حتى الآن. هل أنت مرتاب؟ سؤال صعب نعم أنا مرتاب من كل القوى التى تريد سرقة الثورة وعلى رأسها قوى التطرف الدينى التى ظهرت بعد الثورة وتريد الاستيلاء عليها. الحزب الوطنى أثبت أنه الآن أقوى مما كان فى فترة حكمه،فكل المظاهرات المضادة والفتن وراءها الحزب الوطنى وصرت مندهشا كيف لا يتم التحقيق مع المتظاهرين الذين يهتفون لمبارك. أنا لا أدرى بالضبط ما اختصاصات المجلس العسكرى ومجلس الوزراء؟ وما الحدود الفاصلة بينهما؟ ولماذا لا توجد صلة بين المجلس العسكرى ومجلس الوزراء والشعب؟ وما حدود الاختصاصات للجهات الممثلة للسلطة التنفيذية فى مصر.. فمن المسئول عن ماذا؟ وكل هذا التراخى فى حل المشكلة الأمنية فى مصر بعد أن تقدم البعض بعشرات الحلول ولم نسمع ردا أو صدى. لماذا هذا التباطؤ فى محاسبة من أطلقوا الرصاص وارتكبوا التعذيب ومارسوا الفساد؟ فهذه البقع التى تلطخ ثوب الشرطة ينبغى استبعادها ونسمع أن بعض المتهمين بارتكاب هذه الجرائم مازالوا يشغلون مناصبهم فى وزارة الداخلية ولا أفهم أن يحاسب حبيب العادلى على ما يسمى قضية اللوحات المعدنية قبل محاسبته على قتل المتظاهرين وما تلك الحصانة التى تمنع مجرد تصويره وتخفيه حتى عن القاضى الذى يحاكمه؟ ألا تأتيك الريبة من جهة الإعلام؟ - بالتأكيد فكثير من الوجوه التى شاركت فى تضليل الشعب مازالت فى أماكنها تمارس التضليل.. سواء فيما يسمى بالصحف القومية أو الصحف الخاصة ويحيط غموض بالجهة المسئولة عن السياسة الإعلامية فى مصر. باعتبارك أحد ناشطى حركة كفاية وأحد ثوار يناير وأحد مشاركى كل المظاهرات التى خرجت من حوارى وشوارع مصر منذ أن كنت صبيا فى المدرسة الابتدائية كيف اختلفت وسائل القمع والذل قديما عن حديثا؟ - أذكر أننى بالذات لم أترك مظاهرة واحدة دعت إليها كفاية فقد لبيت كل نداءاتها وهى المظاهرات التى ضمت كثيرا من مثقفى مصر وأذكر أننى تعرضت للاعتداء فى مظاهرات آخرها مظاهرة (كنيسة القديسين) قبل الثورة.. وتعرضت للضرب وتعرضت لقنابل الغاز المسيلة للدموع.. وهى كارثة.. ففى مظاهرة من أجل العراق أمام جامعة القاهرة وقعت على الأرض وكدت أموت من تأثير القنابل المسيلة للدموع ومرة أخرى تعرضت لنفس القنابل فى حى الزمالك يوم 52 يناير عند كوبرى الزمالك تحديدا.. وهذه القنابل عبارة عن غازات سامة منتهية الصلاحية. أما أيام مظاهرات كوبرى عباس قديما فقد كان الأمن وقتها اسمه (بلوك النظام) عبارة عن عساكر (غلابة) جدا جدا.. يمسكون عصياً بها ذراع من الصاج لحماية أنفسهم من المتظاهرين - تصدقى - وكانوا أحيانا يضربوننا بالطرف المغلف بالصاج.. كنا آخر دلع والله. باعتبارك صاحب رواية (بالأمس حلمت بك) والتى كنت تطارد فيها أحلامك المستحيلة.. وهى تلك الأحلام التى ظلت تطاردك أيضا.. هل كانت ثورة 1102 أحد أحلامك المستحيلة ؟ - نعم.. ولم أتوقعها أو أتخيلها أو حتى أفكر فى الاقتراب من فكرة تقربنى منها.. لا.. على الإطلاق وأنا الذى قرأت فى كتب التاريخ وفى الروايات التاريخية وأنا الذى امتهن الأدب والإعلام وأتظاهر منذ الطفولة.. أقولها.. فقد فاجأتنى الثورة وأذهلتنى.. وكانت واقعة (كنيسة القديسين) هى التى أكدت لى أن بلدنا لن تقوم لها قائمة. لكن قيامتنا قامت واستيقظنا على جنة أتمنى أن تكون فعلا جنة منشودة. كيف تفكر فى كتابة أدبية الآن ؟ - أتوسل لها.. ولا تأتى.. ربما ليس ميعادها أو ربما لست أنا الذى يجب أن يكتب الآن.. خاصة لو كانت عن الثورة ومن الثورة.. هناك كثيرون من الشباب كتبوا نصوصا جيدة من الميدان منهم الشاعر عبدالرحمن يوسف. وأرى أن هؤلاء الشباب أجدر منا على الكتابة الآن.. لأنها ثورتهم.. أما نحن فقد كان لنا دور مساعد.. هم أبطال العمل الحقيقيون نحن حاولنا من قبل عمل ثورة ولم ننجح.. ولن نضحك على أنفسنا. ولماذا نجحوا هم ؟ - لأن الثورة بها عنصر معجزة.. تلك المعجزة التى خصتهم بحضورها.. أما نحن فلم نستطع استحضارها.. لكن الثورة جاءت لإنقاذ أرواحنا جميعا. باعتبارك كتبت رواية شرق النخيل عام 1891 وهى الرواية التى تنبأت بثورة 52 وكانت تدور فى التحرير ويعيش أبطالها نفس التظاهرات والحالات والأسباب.. وهى الرواية التى كنت قد أهديتها لروح أمك.. أو روح مصر وباعتبارك قلت فى إحدى فقرات السرد بها : عبرنا النخيل وبدا من بعيد السور الرمادى للحديقة المكسو بالطين.. ولم يكن سطحه الخارجى مستويا، بل كان منبعجا فى أجزاء كثيرة تملأه تشققات متعرجة تمتد بعرضه.. لم يكن سورا يستعصى على أى إنسان يحاول أن يتسلقه وكان القصد منه مجرد منع الحيوانات من التسلل للحديقة. هل كنت تعرف أن مصر ستتسلق ذلك السور ؟ - لا أدرى لكنها الكتابة والرواية التى فصلت بينها وبين الثورة ثلاثون عاما.. وشرق النخيل هى فعلا رواية كاملة تدور فى ميدان التحرير وبها كثير من النبوءات التى تحققت بما فى ذلك العناصر المندسة والمخبرون فى الميدان وكذلك القنابل المسيلة للدموع. لكننى و بالرغم من ذلك لم أكن أتوقع الثورة.. لكن أى كاتب فى الدنيا لابد أن يمر بلحظات من الصعود وأخرى من الهبوط.. لحظات من الظل وأخرى من الضوء.. من الكر و الفر.. من الفرح والانقباض .. الحقيقة والغيوم.. الإفاقة والتهاويم.. هنا يكتب الكاتب عما يراه فى تلك اللحظة فقط وليس عما بعدها أو قبلها.. يكتب عن بؤرة الضوء التى تكشفت أمامه فجأة ثم اختفت.. هذه هى الكتابة وهى ليست تحايلا ولا استجداء ولا زيفا. كما أن فعل الكتابة نفسه هو تعبير عن تفاؤل من نوع ما.. والكاتب دائما يتوقع أن العمل الذى يقوم به له جدوى حتى ولو كان يدور داخل جو من التشاؤم. كيف تتنبأ لمصر عام 2102؟ - هذا رجم بالغيب.. ولا أعلم مصر رايحة على فين.. لكنى أتمنى أن تكون مصر حرة وديمقراطية وأرفض تصديق أن مستقبل مصر بيد السلفية برغم حملة الدعاية الجبارة لهم التى تقول إن هذه هى سكة مصر.. وعندى دليل أن مصر لن تكون دينية.. وهو الدليل الذى شاهدناه فى الجمعة الأخيرة بالتحرير المسماة بجمعة الغضب الثانية.. رأيت هناك مصر ثانية وعرفت أن هذه القوة الكبيرة داخل روح هؤلاء الثوار هى التى سوف تقود مصر.. وهى قوة تذكرنى بمسرحية (لويجى برينديللو)؟ (ست شخصيات تبحث عن مؤلف).. نحن نحتاج للمؤلف. باعتبارك عشت فترة طويلة من حياتك فى سويسرا بعد فرارك من نظام السادات.. وقد عملت هناك مترجما بمنظمة حقوق الإنسان بجنيف.. أسألك كيف نستعيد أموالنا من سويسرا ؟ ضحك بشدة وقال : سوف أحكى لك حكاية حدثت منذ عشر سنوات فى جنيف وسمعت بها لكن لم أشاهد أبطالها.. وهى حكاية حقيقية أقرب لنكتة عن وزير مصرى كان مريضا بالقلب.. والمعروف أن مرضى القلب فى مصر يذهبون للعلاج إما فى أمريكا أو لندن.. لكن إلى سويسرا ؟! وهذا ما حدث سمعنا أن أحد الوزراء المصريين فجأة جاء إلى سويسرا بطائرة طبية مباشرة إلى أحد البنوك، حيث كان يودع أمواله بها وأراد أن يستردها ببصمة الصوت وحين وصل على كرسى متحرك وفتح فمه لينطق.. مات.