فى القرن الثامن عشر، وفى أحد أحياء باريس الفقيرة القذرة، وُلد جان بابتست جرونوى، طفل سفاح. وماتت أمه تاركة إياه فوق كومة سمك متعفنة. ونُقل الرضيع إلى الدير، ثم إلى دار للرعاية، وكان كل من حوله يخاف منه لأنه طفل دون رائحة، بينما كان الطفل نفسه يمتلك موهبة عبقرية، فهو يتمتع بحاسة شم أسطورية، يستطيع تمييز الأشياء عبر رائحتها حتى لو كانت تبعد عنه بمسافات شاسعة. وحسب خيال المؤلف الألمانى باتريك زوسكند، فإن موهبة «جرونوى»، تعاظمت حين صار شاباً، فالتحق بالعمل فى مصنع للعطور، وقدم لصاحبه تركيبات فذة لروائح بديعة، حتى جاء يوم التقطت فيه حواس الشاب رائحة ساحرة لا مثيل لها، تتبّع الرائحة عبر شوارع المدينة حتى خرج إلى أطرافها، وهناك اكتشف أن الرائحة الجميلة تنبعث من فتاة، فاقترب منها، ووضع يديه حول عنقها وغمر أنفه فى شعرها ليستنشق هذا العبير الملائكى، ولم ينتبه إلا والفتاة مختنقة، جثة هامدة، فتركها غير عابئ بموتها، منتشياً بالعطر الذى حصل عليه منها. ومن ذلك اليوم أدرك جرونوى أن شخصية كل إنسان ليست سوى رائحة خفية تنبعث منه، وبناء على هذه الرائحة تتحدد مواقفنا من صاحبها، أحياناً نحب دون سبب، وأحياناً نكره دون سبب، أو نخاف دون سبب، أو ننجذب دون سبب. الرائحة هى الشخصية وهى الروح إذن. وقرر جرونوى أن يبحث عن وسيلة لاستخلاص هذه العطور الخفية من أجساد البشر. وأخبره صاحب المصنع عن مدينة جراس، عاصمة العطور فى فرنسا، فخرج متوجهاً إليها. فى طريقه إلى «جراس» اعتكف جرونوى فى مغارة جبلية، يسترجع الروائح ويستمتع بها، وفجأة انتبه إلى أنه لم يفكر أبداً فى رائحته هو نفسه، واكتشف عندئذ الحقيقة المريرة: جان بابتست جرونوى ليست له رائحة، أى أنه غير موجود، لا أحد يراه ولا أحد يحبه ولا يكرهه. إنه عدم. وقرر جرونوى أن يواصل رحلته إلى جراس ليتعلم كيفية استخراج العطور من أجساد البشر حتى يصنع لنفسه عطراً من أجمل الروائح. وتعلم جرونوى طريقة استخلاص العطر البشرى، وبدأ مشروع حياته وحلمه الكبير، وفى سبيله، قتل 12 من أجمل بنات فرنسا، وصنع من أجسادهن عطراً عظيماً. وقبل أن يستعمله، ألقت الشرطة القبض عليه، وحُكم عليه بالإعدام. وفى يوم تنفيذ الحكم احتشدت عائلات الجميلات القتيلات ليشفوا غليلهم من قاتل الجمال. قبل خروجه إلى ساحة التنفيذ، سكب جرونوى نقطة من العطر على جسده. وما إن رآه المحتشدون للقصاص، خروا ساجدين، أصبحوا مأسورين بالرائحة الخفية دون أن يدركوا ذلك. وقالوا إنه برىء وإنه ملاك، وانخرطوا فى لوثة جنون وهوس جماعى، يطلبون منه الغفران والسماح. نظر إليهم جرونوى باكياً وغادرهم، وأدرك أنهم خضعوا لسطوة العطر الأخاذ، لكنه بات متأكداً أنه ما زال غير موجود، وأن ما حدث لهم كان بتأثير عطور البنات الجميلات، باختصار لا يزال جرونوى دون رائحة أصلية. خرج وتوجه إلى مدينة أخرى، وسكب العطر كله على جسده فتجمع حوله الناس مسحورين والتهموا جسده. هكذا يا والى مصر.. وهكذا يا إخوان مصر، ربما تقتلون الجمال فى هذا الوطن، ربما تسفكون الدم لتكونوا موجودين.. لكنكم أبداً لن تكونوا موجودين، لأنكم لستم «أصلا» فى هذا الوطن، لا عطر لكم، ولا حضور، ولا روح. عطر مصر لا يضمحل أبداً مهما تكالب عليه القتلة.