حدث ذلك في الانتخابات البرلمانية عام 1984.. عندما كنا في ريعان الشباب وكنا نمارس السياسة بمثالية وطموح وأمل كبير في التغيير.. كنا نعيش أحلام جيلنا بأن مصر لابد أن تقطع صلتها بالممارسات السياسية القديمة العقيمة.. وتدخل عصر الحرية والديمقراطية بما يتناسب مع عقول أكثر وعياً وانفتاحاً علي العالم وتجاربه السياسية. كنت في ذلك الوقت مندوباً لجريدتنا "المساء" في مجلس الوزراء الذي كان يرأسه المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين توفي في يونيه 1984 وفي تلك الأثناء وضعت الدولة نظاماً جديداً للانتخابات بالقائمة النسبية المشروطة.. وإلي جوار القائمة كان هناك مقعد للفردي يسمح لشخص من المستقلين أو الحزبيين بالترشح عليه. ولكي تكون مهمة المرشح الفردي صعبة إن كان من المعارضة عمدت الحكومة إلي توسيع نطاق الدوائر بدمج أكثر من مركز في دائرة انتخابية واحدة علي غير المعتاد وترشيح شخصيات محلية في القري والمدن المشكوك في ولائها الكامل للحزب الوطني بهدف تشتيت الأصوات.. وبذلك لا يجد المرشح الفردي فرصة للفوز إلا إذا كان في جلباب حزب الحكومة. في تلك الانتخابات تم ترشيح المرحوم خالد محيي الدين علي المقعد الفردي في دائرته الانتخابية التقليدية بكفر شكر في محافظة القليوبية. وتم توسيع الدائرة لتندمج لأول وآخر مرة في دائرتي الانتخابية بمركز طوخ قليوبية.. وكان لحزب التجمع الذي يتزعمه الأستاذ خالد قدر معتبر من الشعبية في الشارع المصري بعد دوره في انتفاضة عام 1977 التي قال عنها الرئيس السادات "انتفاضة الحرامية".. كما كان للأستاذ خالد شخصياً احترام كبير بين المثقفين نظراً لتاريخه المشرف باعتباره أحد الضباط الأحرار قادة ثورة يوليو 1952 ولانحيازه المعروف للديمقراطية ودوره كمعارض وطني نزيه رغم محاولات تشويهه واتهامه الدائم والظالم بأنه شيوعي ملحد "الصاغ الأحمر". وفي قريتي "مشتهر" التي صارت ضمن دائرته الانتخابية كانت لجنة حزب التجمع نشطة في الحشد والدعاية لزعيم حزبهم. وكانت علاقتي طيبة ببعض الأصدقاء في هذه اللجنة كما كانت علاقتي طيبة بقيادات مهمة في الحزب الوطني وغيره من القوي السياسية المتنافسة رغم أنني لا أنتمي لأي منها.. وبسبب هذه العلاقات فوجئت ذات ليلة بزيارة من بعض أصدقائي في لجنة حزب التجمع يخبرونني خلالها بأنهم وجهوا الدعوة إلي الأستاذ خالد لحضور مؤتمر انتخابي بقريتنا فوافق وحدد الموعد.. لكن عمدة القرية عندما علم بذلك أمر رجاله بجمع مفاتيح دواوير العائلات كلها وأغلق مركز الشباب والمدارس حتي لا يجد الأستاذ خالد مكاناً يستقبله.. ولذلك يطلبون وساطتي عند العمدة الذي هو قريبي ليحل المشكلة ويخرجهم من الموقف الحرج.. وكان ردي أن الحل ليس بيد العمدة.. فالتعليمات جاءت من أعلي والرجل ينفذها باعتباره المسئول عن الأمن.. والأفضل أن نعتمد علي أنفسنا في تدبير المكان.. وعرضت عليهم الساحة الواسعة أمام منزلنا.. لكنهم أصروا أن يكون اللقاء في أحد الدواوير.. وبناء عليه تم وضع خطة بديلة.. أجريت اتصالاً بأحد الأصدقاء "الوفديين" الذي يطل بيته علي دوار عائلته من الداخل واتفقنا علي أن يتم فرش الدوار وتجهيزه للمؤتمر في سرية تامة.. فتكون المفاجأة كاملة ولا يستطيع أحد أن يفسدها. وفي الموعد المحدد تم فتح الدوار من الداخل.. وبدلاً من أن يأتي الأستاذ خالد من طريق الغرب المعتاد جاء من الشرق.. وبسرعة بدأ المؤتمر واجتمع الناس.. وعندما جاء العمدة والمسئولون كان الوقت قد فات ولم يعد بالامكان أن يفعلوا شيئاً.. وأصر الإخوة التجمعيون أن أكون أول المتحدثين.. فرحبت بالضيف الكبير وسردت بعضاً من سيرته التي أعرفها.. ثم قلت: "قد لا أتفق معك في آرائك.. وربما أعارضك وأقف علي عكس الزاوية التي تقف عليها.. لكن هذا لا يمنع من أن أعمل من أجل أن تحصل علي حقك في أن تخاطب ناخبيك وللناس مطلق الحرية بعد ذلك في أن تنتخبك أو ترفضك".. وتتابع المتحدثون.. ثم ألقي الأستاذ خالد كلمة جذب بها الناس إليه. وعندما انتهي اللقاء اكتشفت أن المسئولين في حالة نفسية جيدة.. فلم يحدث ما يعكر صفو الأمن.. والمتحدثون لم تخرج منهم أية إساءات.. ومع ذلك فقد طلب منا أن نذهب جميعاً في الصباح إلي أحد المكاتب الأمنية المهمة للتحقيق معنا.. وأشهد أنهم تعاملوا معنا باحترام بالغ.. ولم يلحق بنا أي أذي.. وفي النهاية فاز الأستاذ خالد في الانتخابات وفزنا نحن بزيارته لقريتنا.. وفزنا أيضاً بمغامرة لشباب كان ينظر إلي السياسة نظرة مثالية طموحة.