30 مارس.. كان يوماً مشهوداً منذ 50 عاماً.. الكثيرون سواء من جيل الستينيات من القرن الماضي أو الجيل الحالي يجهل الكثير عن هذا اليوم.. رغم أنه كان الخبر الرئيسي في كل الصحف والإذاعة والتليفزيون.. والحكاية أن هذا التاريخ ارتبط بتجاوب جمال عبدالناصر مع المشاعر الشعبية المطالبة بضرورة التغيير بعد أن اندلعت مظاهرات حاشدة في أحد أيام شهر فبراير سنة 1968 منددة بالأحكام التي صدرت بحق المتسببين في كارثة 1967.. واعتبروا أن هذه الأحكام لا تكفي لما ارتكبوه من اهمال جسيم أدي إلي الهزيمة الشرسة. وهكذا قرر جمال عبدالناصر إصدار بيان يتضمن إجراءات عاجلة مما يعطي الفرصة للعودة إلي سيادة القانون واجراء تغييرات أساسية في نظام الحكم وتنظيم السلطات. وقد جرت عدة مناقشات واسعة بين الخبراء والمسئولين حتي استقر وجدان جمال عبدالناصر علي صياغة هذه المناقشات في قرارات ملزمة للوزارات للعمل بها.. ولما كان صدور البيان وافق تاريخ 30 مارس فقد قرر تسميته بيان 30 مارس. وقد قرأت في كتاب مذكرات المهندس سيد مرعي الذي شغل عدة مناصب وزارية وتنظيمية في عهد الرئيس عبدالناصر وعهد الرئيس السادات.. تفاصيل عن هذا البيان يقول.. كان هذا البيان قد قام علي أساس تنفيذ مطالب أساسية وجوهرية مثل اصدار دستور دائم.. والعمل علي إزالة آثار عدوان 1967.. ولكنه أكد أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ومعني هذا أن كل ما تطلبه المعركة له الأولوية مهما كان ما جاء في هذا البيان.. وفي أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد إعلان البيان طلب عبدالناصر من الوزراء كل فيما يخصه أن يبادر فوراً إلي تنفيذ ما يخصه من البيان في وزاراته في ذلك الوقت متابعة ما يتم تنفيذه أولاً بأول.. وبادر الوزراء بالتحدث عن الأسلوب الذي سيتبع في تنفيذ ما جاء في هذا البيان والكل متحمس لما يقول.. ولكن كان الدكتور حلمي مراد وزير التربية والتعليم أشد المتحمسين للبيان لدرجة أن الرئيس عبدالناصر أوكل إليه مهمة متابعة ما ينفذ من البيان في الوزارات المختلفة وعليه أن يعرض تقريراً موجزاً بما يتابعه في افتتاحية كل جلسة من جلسات المجلس. وطلب الرئيس من الدكتور حلمي مراد أن تكون وزارة التربية والتعليم هي أول ما ينفذ بيان 30 مارس لأن التعليم وصل إلي حالة غير مرضية ومستواه يتدهور سنة بعد أخري وبرغم أن التعليم مجاني في جميع المراحل إلا أن الناس تدفع مبالغ باهظة في الدروس الخصوصية لأبنائها. أضاف عبدالناصر نقده لحالة التعليم أن الامتحانات أصبحت كابوساً لكل طالب وأسرته وفوق ذلك بأنه لا تكاد تمر سنة إلا ويتسرب امتحان أو أكثر.. كل هذا كما قال عبدالناصر وأوردها سيد مرعي مدخل في صميم التغيير الذي يجب أن يتناوله بيان 30 مارس. وكان بيان 30 مارس بالفعل قد تضمن شرحاً صريحاً لكل ما هو قائم في البلاد ومطلوب تغييره وكان عبدالناصر يعتقد أن الوزراء سيهتمون برؤيته ولن يتقاعسوا.. ولكن الذي حدث بعد ذلك أن الدكتور حلمي لم يعرض تقرير أول متابعة لا لوزارته ولا للوزارات الأخري وسأله عبدالناصر عن ما قام الوزراء بتنفيذه.. فرد الدكتور حلمي بسرعة قائلاً يا سيادة الرئيس يؤسفني القول إنه لم يتم تنفيذ أي شيء.. وعاد عبدالناصر للسؤال من الوزراء لم يتقدم بتقرير عما نفذه! ورد الدكتور حلمي : ولا وزير يا سيادة الرئيس هنا انفعل جمال عبدالناصر ووجه حديثه إلي كل الوزراء قائلاً : إن الدكتور حلمي مراد مكلف مني شخصياً بأن يطلب من كل وزير تقريراً عن الخطوات التي تمت في وزارته وكان من الواجب علي جيمع الوزراء أن يعاونوه في أداء هذه المهمة التي كلفته بها والأن أريد أن اعرف ما هو السر في هذه الحالة الجماعية من عدم الاستجابة؟ وبدأ الجو يتكهرب داخل قاعة المجلس عندما أعلن سيد مرعي أنه مندهش لكلمات حلمي مراد الآن وزارة الزراعة أرسلت البيان المطلوب إليه خلال الأيام الماضية وقبل جلسة اليوم. وقد وصلني منه ما يفيد استلامه لهذا التقرير. وقال عبدالناصر هل هذا الكلام صحيح.. رد الدكتور حلمي نعم صحيح ولكن تقرير وزير الزراعة غير مقنع وليس هو ما تريده بالنسبة لمتابعة بيان 30 مارس. وهنا تدخل الرئيس عبدالناصر بعد أن اشتد الشد والجذب بين سيد مرعي والدكتور حلمي مراد وأنهي المناقشة قائلاً للدكتور حلمي.. علي العموم إذا كانت هناك ملاحظات علي تقرير سيد مرعي فأكتبها له وهو يرد عليها أما بالنسبة لباقي الوزراء فالمرجو منهم أن يوافوا الدكتور حلمي بالتقارير المطلوبة منهم. وفي الاجتماع التالي لمجلس الوزراء.. تحدث الدكتور حلمي وقال إنه تلقي فعلاً بعض التقارير من الوزراء ولكن بعد فحصها تبين له أي البيان مازال لم ينفذ منه شيئاً.. وهذا هو الواضح أمامي. وانفعل الرئيس وقال لحلمي مراد متسائلاً.. ولماذا لم ينفذ في قطاع التعليم.. لقد قلت إن الناس تشكو من ظاهرة الدروس الخصوصية.. هل فعلت شيئاً لعلاج هذه الظاهرة.. ألم يتضمن بيان 30 مارس ضرورة لتعديل نظام التعليم.. لماذا اذن لم تفعل شيئاً؟ وراح عبدالناصر يعدد المطالب التي نص عليها بيان 30 مارس بالنسبة لقطاع التربية والتعليم وكيف أنه لم ينفذ منها شيئاً حتي الآن. وهنا اتخذ الدكتور حلمي موقف المدافع وبدأ يشكو من الزيادة العددية في عدد الطلاب.. وغير ذلك من الشكاوي التي عددها الدكتور حلمي وانتهي إلي اعترافه بأنه لم يستطع أن يحدث تغييراً كبيراً في وزارته بعد. وأضاف الدكتور حلمي ولكن هذا ليس معناه أن الأجزاء الأخري في البيان مستحيلة التنفيذ.. مثل الحريات وضرورة احترامها ومبدأ سيادة القانون وكلها طالب بها بيان 30 مارس ومع ذلك لم تنفذ حتي الآن.. وذلك لأن أجهزة الرقابة في الدولة تتخطي الحدود المرسومة لها في القانون.. ومازال تزاول نشاطها في كتابة التقارير والتنصت علي المكالمات التليفونية. وسأله عبدالناصر هل هذه التقارير صادقة أم كاذبة.. وفي بعض الأحيان تكون تسجيلاً لنشاط ضد نظام الحكم أليس كذلك يا دكتور حلمي. وفاجأه عبدالناصر قائلاً : ألا يحدث في بعض الأحيان أن وزيراً يجلس علي المائدة مع شلة من الأصدقاء ويروي لهم مداولات ومناقشات ما يدور داخل الاجتماعات في المجلس برغم أن هذه المناقشات محظور افشاؤها. وانت فعلت ذلك يا دكتور وروي له أنه في اليوم الفلاني كان الدكتور حلمي يجلس مع فلان وفلان وفلان وقال لهم كذا وكذا وكذا وروي ما دار في مجلس الوزراء وأنه يري أن بيان 30 مارس لن ينفذ منه شيئاً. أضاف عبدالناصر أنك فعلت ذلك يا دكتور حتي قبل أن تدلي بآرائك هنا داخل مجلس الوزراء وطبعاً اقيل الدكتور حلمي مراد إنها حكاية تذكرها التاريخ عن بيان 30 مارس ومراوغة البعض في تنفيذ ما جاء به.