جمال عبدالناصر.. هذا الشخص الأسطوري الذي لم يعرف العالم مثله في صلابة الرأي والعناد وحب السيطرة والرغبة الأكيدة في تنمية مصر اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا وصناعيا وزراعيا ودعوته المستمرة في نشر القومية العربية من المحيط الأطلسي إلي الخليج الفارسي.. هذا الشخص الجبار الذي كان الكل يخشاه.. استطاع ان يحقق حلم الوحدة بين سوريا ومصر.. ولكن كل هذه الأماني فشلت إما لأخطاء ارتكبت وإما لجهل في تقدير المواقف أو لثقة مفرطة في أشخاص ليسوا علي مستوي هذه الثقة نفسها. وقد قرأت في مذكرات صلاح الشاهد الذي كان مديرا للمراسم برئاسة مجلس الوزراء وكبيرا للأمناء في رئاسة الجمهورية أن حدث ان رفعت المخابرات تقريرا للرئيس عبدالناصر تضمن أن الدكتور كمال رمزي استينو يستغل منصبه كوزير في إعطاء تصريحات علي هواه لاستيراد أقمشة من فرنسا وبعد أن كاد الرئيس عبدالناصر يصدر قرارا باقالته عرف أن هذا التقرير ليس صحيحا علي الاطلاق.. ومرة أخري وصلت معلومات كاذبة عن الشيخ الباقوري وكان وزيرا للأوقاف وقرر عبدالناصر عزله وابعاده عن الحياة العامة ولكن تبين ان هذه المعلومات غير صحيحة وكانت محاولة للايقاع بالشيخ الوقور لعدم تنفيذ أمر شخص وعندما علم الحقيقة تمت إعادته إلي الحياة العامة وإلي الأضواء. وهنا قال عبدالناصر كما جاء حرفيا في المذكرات: "اننا نعاني أزمة في الأخلاق.. لقد ساءت الأخلاق.. قل لي بربك.. هل أحضر ملائكة لأعمل منهم ضباطا للمخابرات يقولون الحق ولا يقعون في الظلم ويظلمون الآخرين لغرض في نفوسهم.. ان الضابط صاحب التقرير يستحق العقاب" ولكن صلاح الشاهد لا يعلم ما انتهي إليه مصير أصحاب التقارير. والحقيقة ان الناس والمؤرخين اختلفوا حول فترة حكم عبدالناصر بين الإيجابيات والسلبيات. لانه كان يحلم بأن تزول الفوارق بين أفراد الشعب.. فقد أصدر القوانين الاشتراكية وقرارات التأميم.. ولكن في هوجة التنفيذ وقيام من لا يفهم بتنفيذ إجراءات تطبيق الاشتراكية وفرض الحراسة تعرض الكثيرون إلي الظلم.. وأصبحت هذه القوانين مثار شكوي لعدم استطاعة الشعب في عموميته للحصول علي ما يريد من الغذاء فانتشرت الطوابير أمام الجمعيات وصار الحصول علي بعض المواد الغذائية يتم بالواسطة حتي أصبحت هذه الوجائع مثار تهكم و"تريقة" في الأفلام السينمائية وفي البلاد العربية. وقرر عبدالناصر اقامة صروح صناعية مثل الحديد والصلب ومصانع للسماد والورق وغيرها.. ولكن لأن الذين أداروا هذه المصانع كانوا من أهل الثقة وليسوا من أهل الخبرة فقد تعرضت هذه المصانع لأزمات اقتصادية عديدة.. ورغم ذلك مازالت قائمة حتي الآن.. وقد جري تطويرها فيما أعلم. ولأن عبدالناصر كان رجلا جماهيريا فقد التف حوله الشعب يحبونه من القلب.. كان الشعب يعاني من بطش وجبروت الفئات الحاكمة إلا انه كان يعشق عبدالناصر.. والغريب انه حدث أثناء حكمه عدة اعتقالات امتلأت بها السجون والمعتقلات.. وكانت هناك قضايا تعذيب عديدة ورغم ذلك كثيرا ما سمعت مديحا واعجابا به من هؤلاء المعتقلين وقد تكون كل هذه الإساءات التي حدثت قد وقعت بعيدا عن رؤية عبدالناصر.. وقد يكون ما تم قد حدث بدون أي تعليمات منه. وحدث أن طلب أعضاء مجلس الأمة السماح للطلاب الحاصلين علي الثانوية العامة بمجموع أقل من 50% بالالتحاق بالجامعات كطلاب منتسبين.. ووافق عبدالناصر علي هذا الطلب لا لشيء إلا لكي "ينبسط الشعب" ولكي تتاح الفرصة لكل أبناء الشعب بالالتحاق بالتعليم الجامعي.. وفعلا حدث ما تمناه عبدالناصر وقرر في ذلك أيضا تعيين كل الخريجين كموظفين في الحكومة من خلال القوي العاملة وظل ذلك يحدث علي مدي سنوات حتي اتخمت الحكومة بالموظفين وأصبح غالبيتهم يحصلون علي مرتبات بدون عمل وهذا ما عرف بالبطالة المقنعة. يضاف إلي كل هذا ان عبدالناصر كان معتمدا بنفسه علي أبعد الحدود ومؤمنا بطيبة الشعب إلي أبعد الحدود أيضا.. كان يريد الحرية ويرفض التبعية أراد انهاء الاحتلال البريطاني بأي شكل وبأي صورة ونجح في ذلك وبصرف النظر عن التنازلات التي صاحبت اتفاقية الجلاء.. إلا ان له تصريحا مشهورا هو "انه اخرج الانجليز وعلينا ألا نعيدهم ثانية". ولكن الذي حدث ان الغرب كله تآمر عليه.. كلهم يريدون منه التنازل عن مبادئه في الحرية وعدم الانضمام إلي الأحلاف أو التكتلات ودول الغرب لا ترحب بذلك وكانت المؤامرة الكبري بسحب تمويل بناء السد العالي وكان رد عبدالناصر عنيفا إذ قابل ذلك بتأميم قناة السويس.. وتم الإعلان عن هذا التأميم أمام الجماهير وبصورة استعراضية قابلها الغرب برد فعل أعنف حيث تم الاعتداء الثلاثي الذي حدث يوم 29 أكتوبر 1956 من إسرائيل وفرنسا وانجلترا مهما يقال اننا انتصرنا إلا ان الواقع يقول اننا خسرنا كثيرا سواء لوجود قوات الطوارئ الدولية أو احتلال إسرائيل لبعض المناطق في سيناء وكذلك خسائرنا المادية من تعطل القناة والتعويضات التي دفعت مقابل التأميم ولكن في واقع الأمر أيضا ان القناة عادت إلي مصر قبل موعد عودتها باثني عشر عاما.. ومرة أخري لعب الغرب دورا ضخما في تحريض إسرائيل علي القيام بعدوان 67 الذي كان كارثة بكل المقاييس.