اذا كان جابرييل جارثيا ماركيث قد اخترع قرية هي ماكوندو. وجعلها نبضاً للعديد من اعماله. فإن البحر والصيادين والبلانسات والأنواء وحلقة السمك ولقمة العيش الصعبة.. ذلك كله هو الذي دفعني للكتابة عن بحري. الحي الذي ولدت فيه. ووعيت منذ طفولتي علي المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التي تسم الحي بخصائص مغايرة. حين دفع لي الصديق عبدالرحمن درويش بهذه الرواية وجوه من الجبل تعرفت الي إسكندرية أخري. خارج بحري. تختلف عن القليل الذي انطبع في ذاكرتي أثناء ترددي عليها. وتختلف كذلك عن إسكندرية اصدقائي من المبدعين: إدوار الخراط وأحمد محمد حميدة ومحمد حافظ رجب ومصطفي نصر وإبراهيم عبدالمجيد ومحمود عوض عبدالعال ومحمد الجمل وعبدالفتاح مرسي وسعيد سالم وسعيد بكر ومنير عتيبة وحورية البدري ومجدي عبدالنبي وسعيد بدر ومحمد الصاوي وعبدالفتاح رزق وحسني محمد بدوي ومحمد عباس علي وغيرهم لا تحضرني اسماؤهم.. عبدالرحمن درويش يهبنا في روايته بقايا الاسكندرية الكوزمو باليتيلية. اللحظات الأخيرة في افولها. اختلفت الي حد التضاد مع إسكندرية لورانس داريل في تقديره للإسكندرية الكوزموبوليتانية. مقابلاً لتعاطفي مع إسكندرية ناسها من أبناء بحري واللبان وكرموز وراغب والورديان. وغيرها من أحياء الاسكندرية الوطنية. مع ذلك. فإن سكان الاسكندرية من الأجانب لهم مواضعهم ما يزال في الذاكرة. يصعب ان أغفله أو أتناساه. لكن الوجوه التي قدمها عبدالرحمن درويش من الجبل وجوه وطنية في الدرجة الأولي. وجوه لا تنتمي الي الجبل فقط. وإنما تنتسب الي الاسكندرية بعامة. وأحيائها الشعبية بخاصة. ثمة المظاهرات ضد الاحتلال والحكومة القائمة وتشكيلات الأحزاب ودور السينما الشعبية والمسارح والطائرات الورقية وشكوكو بقزازة وليالي رمضان والمقاهي وقبائل الصعايدة. وثمة الطالب والطفل والملك والضابط والكوديا وبائع المخدرات والبلطجي والمومس والأجانب الذين ظلوا يعتزون الي ان غادروا البلاد بالأنتساب الي المصرية. عبدالرحمن درويش قدم لي في لوحاته الجبلية ما لم أكن اعرفه. ولا تصورت انه بعض صور الحياة في الاسكندرية. قد نرفض المظاهر السلبية المتناثرة في اللوحات. لكننا نتأمل طرافتها. وتعجب بقدرة الفنان علي التقاط التفاصيل الصغيرة. أفاد الفنان من إمكانية اللوحة بانفصالها واتصالها ببقية اللوحات. ثمة "الزوم" التي تعطي تكويناً تبين فيه المنمنمات والتفاصيل. وثمة البانوراما التي تهبنا المشهد في عمومه. والأجانب بعد رئيس في لوحات عبدالرحمن درويش. كانت اعداد الاجانب محدودة في بحري. والغالبية كانت تحيا في العطارين والرمل ومناطق أخري في الاسكندرية. وهي المناطق التي سلط عليها الكاتب عدسته. فالتقطت الكثير مما كنت اعرفه. أو اتصوره. أو تغيب ملامحه. أدين لهذه الرواية بفضل التعرف علي أماكن لم تتح لي الظروف ان اتردد عليها. راقني انها ليست مجرد بنايات وطرق. لكنها حياة تنبض بالمغاير من الشخصيات والأحداث والملامح والقسمات. وتلتقط المنمنمات التي قد لا يفطن اليها من ألف المكان. أرجو ان تجد فيها ما أحسست به شخصياً من متعة التعرف الي المكان السكندري. ذلك الذي ظللت أتصور اني اعرفه جيداً. ثم طرحت لوحات عبدالرحمن درويش آفاقاً تماثل امتدادات آفاق البحر.