صدر للدكتور أحمد عكاشة في الثمانينيات كتاب بعنوان(ثقوب فى الضمير..نظرة على أحوالنا) يتناول فيه بالتحليل التغيرات الكبيرة التى حدثت للمجتمع والإنسان المصري فى الآونة الأخيرة. ويلقى بالضوء على عدد من المواضيع المثيرة مثل التشريح النفسي للشخصية المصرية وفكره الضمير العام ومعنى الانتماء وعلاقة المصريين بأمريكا وعلاقتهم بالإعلام وتأثرهم به.. والإدمان والعلاقة بين الجنسين وحال الشباب. الدكتور جلال أمين أيضًا له كتاب شهير بعنوان(ماذا حدث للمصريين) صدرت منه أربع طبعات.. رصد فيه بعين عالم الاجتماع المهموم التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري على مدى نصف قرن. وكنت قد كتبت من ما يقرب من سبع سنوات عن كتاب للدكتور خليل فاضل استشارى الطب النفسى عنوانه (وجع المصريين) حاول فيه أن يبحث عما أسماه (الشمبانزى الاجتماعي) الموجود فينا ومعنا.. ذلك الذى يملك شبكة علاقات اجتماعية مع الناس في العشوائيات والقرى.. في الشركات وقاع المدينة وفي الهضاب المحيطة بالعاصمة يسكن كالحيات في خبايا القرى الساحلية الشمالية.. شمبانزى كون كياناً مستقلاً يمكن الاصطلاح عليه بالكيان (المِبَهْظَظْ).. وهو اصطلاح مناسب لثقافة(مَشى حَالَك). هكذا نحن المصريون نتطبع مع الواقع المر المعاش تدريجيًا حتى نعتاده مثل الذي اعتاد رائحة العفن فزكمت أنفه ولم يعد قادرًا على الشَمّْ..!! تحدث فى الكتاب عن الشارع الذى انتشر فيه التسيب والقبح والكلمات الصدأة.. راصدًا فقد المصريين لأغلى ما امتلكوه وأشهر ما عرف عنهم وهو الاقتراب من الآخر ومبادلته المشاعر الصادقة.. والذي حل محله الخوف العام والفساد الأخلاقي والتربص الاجتماعي والنفور والتوجس وسلوكيات الآكل والمأكول.. هناك أغنية شعبية واسعة الانتشار هذه الأيام تقول بعض كلماتها (مافيش صاحب بيتصاحب ولا راجل بقى راجل ..ح تتعامل ونتعامل خللى سلاحك متكامل).. ومعروفة هى العلاقة الوثيقة بين الغناء الشعبى وحال المجتمع . تحدث أيضًا عن المثقف (الإليت elite) ذلك المصطلح الذي تحول عبر سخرية المصريين إلي(الأليط) أي المثقف المتعالي قائلاً (أن البأس كل البأس في ألا يطابق المثقف بين ما يضمر وما يعلن..ألا يسمي الأشياء والمواقف بأسمائها فلا يزايد أحد علي أحد.. ولا أظن المصريين إلا من الذكاء بحيث يمكنهم من التعرف علي المثقف الأليط من المثقف العضوي(بتعريف المفكر الإيطالي جرامشى) الذي تعنيه بلاده وطموحاتها وهزائمها بقدرما تعنيه طموحاته وهزائمه من زاوية أنهما شيء واحد. وقد أظهرت لنا سنوات ما بعد 25يناير نموذج المثقف الأليط / النفعى الذى يسود الحياة السياسية والثقافية حولنا إذ يمكن فرز نخبة لم تجن مصر ولا المصريين من نخبويتهم شيئا. وهذا الجرح تحديدًا لم يشأ د . خليل آن يطيل فيه بما يساوى خطورته.. إلا أنه بالفعل يكاد يكون مثقفو مجتمعنا عبر ما يقرب من أربع عقود يعملون لحساب أنفسهم !!.. واتخذوا من الأستاذ هيكل نموذجا حيا لهم .. فلم نسمع أو نرى واحدًا منهم ضحى بغال أو ثمين.. لم نر أحدًا منهم صرخ صرخة مدوية أزهقت روحه فى وجه طاغية أومستبد.. بل أقصى ما سمعناه منهم مداورات ومحاورات عن التعايش مع(المؤسسة/الدولة).. وكان شغفهم بالحياة(الهنية) أكبر من حبهم للوطن والإنسان والحرية. ولا أدرى ما هو(الأسوأ ) الذى ينتظرونه أكثر من ذلك. أيضا يناقش الكتاب ظاهرة الأب الحاضر الغائب متحدثا عن الأب(حبة اللقاح)الذي ليس له وظيفة أسرية سوي بذر بذرة الحمل من أجل ذرية صالحة أو طالحة يبدأ أبوته قبل ولادة أطفاله وبعدئذ ينهيها.. مؤكدًا أننا أصبحنا مجتمعا يفتقد إلي الأب بمعناه الأرحب والأشمل.. مجتمع يفتقد إلي الحضور النفسي والتربوى والوجدانى والمادي للأب بل والنوعي المتميز.. مقارنة بأجيال مضت. وعن سنوات المراهقة الشاقة يؤكد المؤلف أن (المراهقون في مصر قنابل موقوتة فما هو متاح في عصر العولمة والانترنت يجعل هناك صراع على ما هو ديني أخلاقي نموذجي أسري.. صراع بين البحث عن الفضيلة وبين التفوق والاستمتاع بالحياة.)..طبعًا غياب مفهوم(العمل العام) وتجريم الاختلاف السياسى تجعل طاقات هؤلاء المراهقون تذهب مع الريح .. الدعاة الشبان يحاولون طرح إشكالية الفضيلة/الاستمتاع.. وإن كان الأمر تعوزه بعض المقاربات الأكثر فهما وتطبيقا للآية الكريمة(وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).. فالدنيا ليست بدار بقاء وخلود ولا ينبغي للمؤمن (الاطمئنان بها)كما أنها ليست جيفه وطلابها كلاب.. بل هى (نعمة مطية المؤمن .. بها تدرك الآخرة). يتناول المؤلف أيضا مشاكل الزواج في مصر والعنوسة وطلاق الأقباط والأسباب التي تدفع بالمرأة المصرية لطلب الطلاق أو الخلع معلنة أن (ضل حيطة.. ولا ضل رجل).مشيرا الى أن الشجار المزمن بين شركاء العمر مجرد واجهة لأمور أخرى.. بمعني أن يكون هناك سبب آخر غير الأمور المادية.. تدخلات الأهل.. ضغط العمل مذاكرة الأولاد والدروس الخصوصية.. نجد هنا أن السبب الأهم بل ربما يكون السبب الوحيد هو الادعاء بأن العمل والبيت والأولاد لا يتركون أي وقت للتواصل الحميم والافتقاد إلي دفء عش الزوجية. كما يناقش ظاهره أطفال الطلاق والطريقة الحادة التي تناولها المصريون واعتمدوها في صراعاتهم الزوجية من منع رؤية الأطفال أو تشويه الطرف الغائب وهى الطريقة التى أدت إلي ظهور جيل من الشباب (مأكول الحواف فاقد الثقة بنفسه مشوش وغير واضح المعالم). ثم يعرج على التعليم في مصر الذى وصفه بأنه في محنة.. وأزمة متفاقمة تصيب مثلثا متساو الأضلاع: المدرس والطالب والأهل. ولا يتناسب أبدا مع خطوات البداية الأولى التى بدأت من القرن التاسع عشر .. لم يقف د/خليل بما يكفى عن الدور الفاسد المفسد الذى ألحقة ج.ح.عبد الناصر وزملاؤه بالمنظومة التعليمية دونما نظر عميق للمجتمع فى تطوره ونموه واحتياجات هذا التطور والنمو. ويفتح د. فاضل ملف المدارس الأجنبية في مصر وخطورة تواجد مؤسسات ثقافية غربية وغيرها علي أرض الوطن حيث تغزو مناهجها الطلاب المصريين في بيئتهم في حين أنهم يأتون من بيئة وثقافة وحضارة مختلفة. (يمشي المصريون منهكون يتساندون علي بعضهم البعض يتكئون علي أكوام من الروشتات وأوراق التحاليل والأشعة..يمضي المصريون في الأرض متعبون يحملون كدهم وهمومهم فوق رؤوسهم وعلي جباهم.. يتكدسون علي عتبات المستشفيات وخارجها ينتظرون الفرج والشفاء أو ينتظرون موتاهم). أوجاع أجساد المصريين من الموضوعات المهمة التى تناولها المؤلف عارضا بعض من أمراضنا أزمة الجهاز المناعي.. التلوث.. مرض السكر وانتشار أمراض القلب. ويوضح أن الصحة ليست الخلو من الأمراض بل إن من يعتبرون أنفسهم أصحاء ليسوا كذلك وبعض من يعانون من أمراض معروفة يعدون أصحاء نسبيا فالصحة ليست تلك الأعضاء السليمة أو الأفكار المعقولة لكنها مصطلح شامل يتعلق بالإنسان ككل..فالصحة تعني صحة النفس والجسد والوجدان مؤكدا احتياجنا إلي معلمين لفن الحياة أكثر منا إلي أطباء. ويصرخ المؤلف مؤكدًا أن الحكومة لم تتخذ إجراء واحدًا يشير إلي أنها استجابت لنداء الاستثمار في الصحة من أجل مستقبل آمن لملايين المرضي ولكنها في كل صغيرة وكبيرة قد استجابت لخصخصة المرض والعلاج بل والمرضي أنفسهم. ويتناول أزمة التأمين الصحي و بارونات الدواء.. ويتحدث عن (الصحة النفسية) مؤكدًا من موقعه كطبيب نفسى أنه لا أحد محصن ضد الجنون ولا مناعة لأحد ضد انهيار أو انكسار نفسي بمعني أن في أعماق كل منا نواة الاضطراب النفسي التي إذا توافرت لها الظروف نبتت وتفجرت وإذا كمنت ظهرت في صور وأشكال مختلفة ومتباينة. ويرى أن نفسية المصريين قضية أمن قومي توجب الاهتمام بها جيدا دون هوادة أو استخفاف خاصة في ضوء ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب/ والغضب المكتوم لدي المصريين وهو مرض نفسي قد يتطور للجنون ويعلق أن الأمر يحتاج إلي علاج حقيقي للوطن حتي يصح المواطنين. خلال السنوات الأربع الأخيرة ظهرت أوجاع أشد وألام أقسى لعل أكثرها ألما هو سلوكيات الانتقام والتشفى وتصدعات وشروخ البنيان الاجتماعى وهى على أرضية ما ذكره الدكاترة الأفاضل تعنى أننا أمام كارثة تامة لن يغنى فيها أى علاج يسبق علاج هذا التصدع والشروخ وهو عمل سياسى/ اجتماعى بامتياز وهو وحده الرقم الرابح ويحتاج جهد جهيد من الكل كافة.. تطوى فيه صفحات الماضى .. ركضا نحو مستقبل قد لا يطول انتظاره لنا.. وقبل أن تحز سكين التاريخ أعناقنا وتنغمس فيها.. وكما يقولون أشجع القوم العطوف.