انتهت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا ، وعاد اليوم إلى القاهرة ، وكما ذهب كما عاد ، لا يعرف أحد أي معنى للزيارة ولا أي سبب منطقي ، كما هو معروف في زيارات القادة على مستوى رؤساء الدول أو حتى رؤساء الوزارات ، لا يوجد أي اتفاقية كبيرة ومهمة تم توقيعها ، حتى الاتفاقية الأهم التي وضعتها الصحافة المصرية القومية والموالية عنوانا للرحلة وجعلتها مانشتات الصحف والبشريات الضخمة التي زفتها للجميع بدخول مصر العصر النووي ، اتضح أنها "فنكوش" ، وأنه لم يتم الاتفاق على أي شيئ فيها ، سوى المزيد من المشاورات والمزيد من المباحثات ، وهو ما يعني أن الأمور معلقة في هذا المشروع ، بل إن المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، السفير علاء يوسف فاجأ الصحفيين المصريين في تصريحاته بختام الزيارة بقوله : إنه لم يكن هناك حديث قبل زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا، أنه سيتم التوقيع على اتفاقية إنشاء محطة للطاقة النووية في الضبعة ، وأضاف لا فض فوه : (المفاوضات لا تزال جارية مع الجانب الروسي حول هذا الموضوع، وذلك في إطار مذكرة التفاهم والتعاون الموقعة خلال زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى مصر، حول التعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية ومن بينها العرض الروسي المقدم في يونيو الماضي لإنشاء محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية). وأضاف (أن مصر، تلقت عروضا من دول أخرى ويتم دراستها والمقارنة بينها حتي يتم التوصل إلى أفضل اختيار متاح، مشيرا إلى أن الجانبين المصري والروسي سيواصلان التشاور والتنسيق حول عدد من الجوانب المالية والفنية في العرض ليتم التوصل إلى التصور النهائي في هذا الشأن في أقرب وقت) ، أي أن العرض الروسي هو واحد من عروض أخرى ما زلنا ندرسها ونقارن بينها ، فهل سافر السيسي لكي يعقد المقارنات هناك في موسكو ؟! . وختم علاء يوسف كلامه "الرائع" بقوله : (هناك دلالات كثيرة حول أن هذه الزيارة لها أهداف أخرى أكبر من التفاصيل الصغيرة) ، غير أنه نسي أن يشير إلى هدف واحد كبير محدد غير هذه الأهداف التي وصفها بالصغيرة ، ومنها المشروع النووي "الصغير" !. محصلة ما قاله المتحدث باسم الرئاسة يمكن تلخيصها في أن رحلة السيسي لروسيا كانت أقرب لزيارة شخصية أو ترفيهية أو أنها فشلت ، ودع عنك كل الكلام الفارغ عن استطلاع الرؤى واستغلال الزخم في العلاقات وتوسيع نطاق التعاون العلمي والعسكري ، كل هذه بلاغيات مطاطة تمثل قنابل دخان إعلامية للتغطية على خواء الرحلة من أي قيمة عملية تستدعي سفر رئيس الجمهورية للمرة الثانية خلال أربعة أشهر لمقابلة بوتين في موسكو ، بما تكلفه هذه الرحلات من ملايين الدولارات في الوقت الذي تشتكي فيه الدولة من قلة الزاد ومحدودية الدخل واقتصاد الضرورة . هذا على جانب ما يراه "الشاطئ" المصري ، أما من يراجع رؤية الصحافة الروسية والخبراء الروس فيمكنه أن يضع يده على محورين أساسيين ووحيدين لهذه الزيارة ، المحور السوري حيث يريد بوتين أن يورط السيسي في مستنقع بشار ، والمحور الليبي حيث يريد السيسي أن يسحب بوتين إلى مستنقع حفتر والجناح الإماراتي في طبرق ، وهذا كلام معلن هناك وليس خافيا ، وبوتين يعاني من أن بشار أصبح منبوذا في العالم العربي كله ، رغم أن الجميع قلق من خطر داعش ، لكن دموية بشار وجرائمه وقتله لمئات الآلاف من شعبه وتدميره للمدن على رؤوس السكان وتهجيره لملايين السوريين وجرائمه الوحشية في التعذيب وقتل آلاف المعتقلين والتي رآها العالم كله ، لم يجعل له صاحبا ، وأصبحت بشاعته في مستوى أخلاقي يتنزه أي "إنسان" عن دعمه فيه أو حتى الصمت عليه ، ومشكلة بوتين أنه لا يجد أي ظهير لبشار في المنطقة سوى إيران الشيعية وحلفائها الشيعة في المنطقة ، ميليشيات حزب الله اللبناني وميليشيات شيعية عراقية أخرى ، وهو ما جعل بشار بمثابة حالة استقطاب طائفية صريحة وأنه جزء من مشروع طائفي واضح ، وبوتين يريد كسر هذه الحالة ، وبالتالي هو يراهن على السيسي ومصر لتكون هي الدولة التي تكسر الحصار المعنوي الطائفي والسياسي عن بشار ونظامه الدموي ، وبشار نفسه يدرك ذلك ، ويراهن عليه ، وأرسل أكثر من رسالة غزل إعلامية في الأسابيع الأخيرة للسيسي والنظام المصري ، بل إنه تجرأ في حواره قبل يومين مع قناة المنار الشيعية التابعة لحزب الله بقوله أن هناك تنسيقا أمنيا عاليا بين مصر وسوريا حاليا على مستوى القيادات الأمنية ، وهو كلام محرج جدا للسيسي ، وكان يستدعي توضيحا أو نفيا من المتحدث الرئاسي ، ولكن الجميع تجاهل الكلام على خطورته . بوتين لا يملك الكثير الذي يقدمه لمصر في ليبيا ، وموضوع إرسال السلاح أو قوات عسكرية إلى هناك خط أحمر بقرارات أممية ، وبخريطة ترعاها الولاياتالمتحدة وأوربا وترى أن لا حل عسكريا في ليبيا ، وأن المزيد من السلاح هو مزيد من الفوضى والدم والفراغ الذي يصنع الإرهاب ، وأن الحل في توحيد القوى المتصارعة وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وأجهزتها لتتمكن من مواجهة الإرهاب المتنامي ، هذه هي الرؤية بوضوح ، وبالتالي لا يملك بوتين خرق هذا الإطار أو أن يجامل السيسي بالمغامرة فيه ، وبالمقابل ، فإن الحال المزرية التي وصل إليها بشار ، وما كشفت عنه التقارير الدولية أنه لم يعد يسيطر سوى على أقل من ربع البلاد ،وسيطرة قوات المعارضة على جنوب وشمال وشرق البلاد بصورة شبه كامله ومحاصرته في العاصمة وعدة مدن أخرى ، والإصرار الدولي على أنه لا وجود له في أي تسوية ، والموقف السعودي والتركي الحاسم والصارم في ذلك ، والسيطرة الإيرانية على القرار السوري بكامله ، أمنيا وعسكريا واقتصاديا ، كل ذلك يجعل من هامش أي تحرك مصري تجاه بشار هو إهدار للجهد والطاقة ، بقدر ما هو أيضا إهدار للكرامة المصرية .