حين بحث المفكرون والفلاسفة فى النهضة لم يختلفوا على أن أساس النهضة هو الإرتفاع الفكرى ولايمكن أن تحدث نهضة فى أى مجتمع إلا بوجود فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة تجيب للإنسان عن كل تساؤلاته التى تتعلق بوجوده فى الحياة والغاية منها ، أى وجود عقيدة لديه ، وبوجود نظام شامل ينبثق عن هذه العقيدة ينظم للإنسان حياته فى كل جزئياتها بناءاً على هذه العقيدة ، أو بكلمات أخرى وجود المبدأ هو سبب وجود النهضة. وعلى هذا الأساس وجدت نهضة على أنقاض روسيا القيصرية بعد بلورة الإشتراكية كمبدأ وحملها الإتحاد السوفيتى كدولة ، وفى أوروبا الغربية وجدت نهضة بعد صياغة الرأسمالية أيضاً كمبدأ صار عليها الغرب بعد عصوره المظلمة إلى يومنا هذا ، وفى كلتا الحالتين لاينكر أحد أن الإتحاد السوفيتى وأوروبا الغربية قد إنتقلتا من مرحلة الإنحطاط إلى مرحلة النهضة بعد صياغة مبدئيهما . إلا أن مفكرى وفلاسفة الغرب قد وقفوا عند التحول الذى حدث فى مجتمعاتهم ونقلهم من شعوب متخلفة إلى شعوب ناهضة ولم يواصلوا فى البحث والتنقيب عن الفرق بين النهضات بل إكتفوا بمطلق نهضة وأعتبروا أن الإنتقال من حالة التخلف والإنحطاط إلى مرحلة النهضة هو الهدف المنشود. فهل هناك فرق بين النهضات ، وهل هناك نهضة صحيحة وأخرى خاطئة ؟ إذا كان المبدأ هو سبب النهضة ، فإن المبدأ الصحيح يؤدى حتماً إلى النهضة الصحيحة والمبدأ الصحيح هو ذلك المبدأ الذى يستند إلى عقيدة صحيحة تقنع العقل وتتفق مع فطرة الإنسان التى خلق عليها وبالتالى تملأ قلبه طمأنينة وتمنحه السعادة الحقيقية وليست تلك السعادة المتوهمة. أما المبدأ الذى يقوم على عقيدة خاطئة فإنه وإن كان قادراً على إحداث نهضة فى المجتمع الذى نشأ فيه إلا أن هذا المبدأ يكون قابلاً للتطبيق بقدر مافى المجتمع من ظروف مواتية لذلك تمنحه هذه القدرة على التطبيق بوصفه ردة فعل على الواقع. فالشيوعية أتت بعقيدة أنكرت وجود الخالق وهذه الفكرة لاتقنع العقل الإنسانى الذى يقطع بأن وراء الكون والحياة والإنسان خالق خلقها ، وتعارضت أيضاً مع فطرة الإنسان المتدين غريزياً نتيجة إحساسه بالعجز والإحتياج تجاه الخالق. فكان المبدأ الإشتراكى الذى بنى على هذه العقيدة مبدأً خاطئاً وبالرغم من أنه أوجد نهضةً إستمرت لسبعين عاماً إلا أنه لم يستطع البقاء أكثر من ذلك لأنه مبدأ خطأ وحين يكتشف أصحاب المبدأ مخالفته لعقولهم ومناقضته لفطرتهم ينقلبون عليه بعد أن كان السبب فى نهضتهم. أما المبدأ الليبرالى (الرأسمالى) فإن عقيدته التى بنى عليها هى عقيدة فصل الدين عن الحياة التى لم تعطى جواباً قاطعاً فى مسألة الخلق بل تركتها للإنسان فمن يؤمن بأن هناك خالق فليؤمن ومن يكفر فله ذلك إلا أنها قد فصلت وجود الخالق فى حالة الإقرار بوجوده عن الحياة ، وقالت أنه ليس للخالق دخل بحياتنا ، والإنسان هو الذى ينظم حياته بعيداً عن خالقه ، وصورت الغاية من الحياة بأنها إشباع أكبر قدر ممكن من المتع الحسية وبالتالى تتحقق سعادة الإنسان . وبناءاً على هذه العقيدة إنبثق نظام يظهر فى كل تفاصيله تأثره بعقيدته فنجد فكرة الحريات مقدسة عند الغربيين لأنها من جنس عقيدتهم التى ترفض أساساً تدخل الخالق فى حياة الإنسان، ونجد فكرة الديمقراطية التى هى حكم الشعب للشعب متفقة مع عقيدتهم التى ترفض أن تخضع إرادة الإنسان لخالقه . وبالتالى نجد أن كل أنظمة حياته يظهر فيها تأثرها بعقيدته التى تفصل الدين عن الحياة . وبناءاً على هذا المبدأ إنتقل الغرب من عصوره المظلمة التى سيطرت فيها الكنيسة ورجال الإقطاع إلى عصر النهضة الغربية ومازال إلى يومنا هذا يمارس حياته بناءاً على هذا المبدأ. وبمحاكمة هذا المبدأ الذى كان سبباً فى نهضة الغرب نجد أن العقيدة التى يقوم عليها عقيدة خاطئة لأنها قد أعطت جواباً خاطئاً عن الكون والإنسان والحياة حين أنكرت دور الخالق فى هذه الحياة ولذلك فهى لاتقنع العقل ولاتتفق مع فطرة الإنسان الذى يشعر بالعجز والإحتياج إلى الخالق الذى خلقه، وبالتالى فإن كل الأنظمة التى إنبثقت عن هذه العقيدة خاطئة أيضاً. ونظرة إلى المجتمعات الغربية ترينا أن هذا المبدأ لم يستطع أن يحقق لهم السعادة الحقيقية والإطمئنان الداخلى فإن المجتمعات الغربية تشهد أكبر نسبة إنتحار فى العالم بالرغم من الرفاهية الإقتصادية التى يعيشون فيها ومن يعيش بينهم يدرك المعنى الحقيقى للتعبير القرآنى فى الآية " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا " طه 124. والسؤال الذى يمكن أن يطرح: لماذا بقى المبدأ الليبرالى الرأسمالى إلى يومنا هذا يطبق مع أنه قائم على أساس خطأ ولم يحقق لأصحابه السعادة الحقيقية ؟ إن إستمرار هذا المبدأ إلى يومنا هذا مطبقاً ليس إقراراً بصحته بل لأنه لايوجد بديل مطبق خاصة وأن المسلمين أصحاب البديل الحقيقى قد تقاعسوا عن دورهم فى طرح البديل الحضارى للبشرية لإنقاذهم من عفن الرأسمالية ، ومع ذلك فالشعوب الغربية بلغ بها الدجر من هذا المبدأ مبلغه مما أضطر السياسيين أن يقوموا بترقيعه بأشياء ليست منه ، وأكبر إنقلاب بدأ فى عهد المحافظين الجدد حين إضطرت الرأسمالية أن تتحالف مع الكنيسة ليس حباً فيها وإنما محاولة لركوبها علها تستطيع أن تعالج الخواء الروحى الذى دب فى الشعوب الغربية. ومع ذلك فأعداد الغربيين الذين يدخلون الإسلام يومياً فى تزايد وهذا مما أخاف الكنيسة الغربية وجعلها تقبل بهذا التحالف مع الرأسمالية التى أزاحتها من الحياة وكل منهم يظن أنه يحقق مكاسب على حساب الأخر ولكن هذا تحالف المفلسيين الذى لن يخرجهم من أزمتهم. أما الإسلام فقد أتى بعقيدة أجابت للإنسان عن تساؤلاته بما يخص الكون والإنسان والحياة فقالت أن الكون والإنسان والحياة مخلوقة لخالق وأن الحياة فى الدنيا ليست أزلية وأعطت جواباً بما يتعلق بالغاية منها حين أقرت بأن الله خلق الإنسان من أجل عبادته " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" الذاريات 56 ، وأن الموت يتبعه حساب يفضى إما إلى الجنة وإما إلى النار وهذه هى حياة الخلود ولذلك فالسعادة الحقيقية التى يبحث المسلم عنها فى الدنيا هى نوال رضوان الله ، وبناءاً على هذه العقيدة إنبثقت أنظمة حياة شاملة تنظم الحكم والإقتصاد والعقوبات والسياسة الخارجية وغيرها ، كانت كلها وحياً من عند الله خالق الإنسان والكون والحياة ويظهر فى كل تفصيلاتها إنبثاقها عن هذه العقيدة . لذلك كان الإسلام أيضاً مبدأً ولكنه يختلف عن غيره من المبادىء بأنه المبدأ الوحيد الذى نزل به الوحى وليس مصدره الإنسان ، لهذا فهو ليس ردة فعل على واقع معين بل هو الجواب والمعالجة التى أرسلها الخالق إلى خلقه لينظموا حياتهم على أساسها . وقد أحدث الإسلام بوصفه مبدأً نهضة فى المجتمع الذى قام على أساسه نقلت العرب من قبائل متناحرة إلى قادة دانت لهم الدنيا ويوضح جعفر بن أبى طالب فى قوله للنجاشى هذا الواقع حيث قال : أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئًا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئًا ، وحرمنا ما حرم علينا. يتبع