المباركة هم مبارك وعائلته ومجموعة من المنتفعين الانتهازيين أحاطهم الرئيس السابق بالعائلة, لتحقيق مصالحهم الشخصية تقوقعا حولهم دون سواهم, ولم يكن للوطن أي اعتبار عند هؤلاء, حتى ولو انتسبوا زورا للوطن أو الدولة, فمباحث أمن (الدولة) كانت مباحث أمن (مبارك) والحزب (الوطني) لم يكن "وطنيا" إنما كان مُباركيا بامتياز, وكذلك الصحف والإعلام, وهاهي مصر في ثوبها الجديد, بعد أن خلعت ثوب الحداد وتعطرت, وهاهم (المباركة) في سجن طره, في نفس المكان الذي شهد من قبل وجود خصومهم ومعارضيهم ظلما وعدوانا, والحمد لله, في لحظات اعتبار وشكر للملك سبحانه, ندرك يقينا أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة, لقد بشر كثيرون بزوال الظلم والطغيان, ولم يكن في مخيلة أحد أن نرى ذلك في القريب العاجل, لكنها الآيات تتوالى, وتتحقق الرحمات لندرك يقينا أن وعد الله حق, وأنه سبحانه لا يخلف الميعاد, وهنا نجدد معا اليقين بزوال دولة الصهاينة وزوال كل صور الظلم والطغيان. القرآن يوضح لنا عرضت لنا سورة القصص نموذجا لتحالف (السلطة مع الثروة), واجتماع فسادهما واستبدادهما معا, بما يحقق شر البلاد والعباد. ففي بداية السورة كان الحديث عن فساد (السلطة) بكل رموزها (فرعون وهامان وجنودهما) : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) ليؤكد الملك سبحانه على قضية فساد السلطة بقوله: (إنه كان من المفسدين), ثم تعرض لنا السورة نموذجا فجا لفساد أهل المال في أواخر السورة كما جاء في قوله تعالى:[إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) ]. ليؤكد المولى سبحانه ايضا على كراهية ذلك النموذج لفساده بقوله: ( إن الله لا يحب الفاسدين).والغريب أن السورة يتصدرها فساد السلطة ثم يأتي في أواخر آياتها فساد المال, وكأن الثانية نتيجة للأولي, فوصف الله جل في علاه, فرعون بأنه ( مُفسد) بينما وصف قارون أنه ( فاسد) , ولذلك عندما قال الله سبحانه في سورة الفجر ( وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد) يتضح لنا أن الفساد هو النتيجة الحتمية و الوريث غير الشرعي للاستبداد المُفسد المقيت. ويعرض لنا القرآن الكريم كيف أن الكبر والعناد يوديان بمن يتصف بهما الى التهلكة والخذلان, فقد قال فرعون :( أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي, أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ] ( 51-52) الزخرف- و[ قال فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] (29)غافر. وتعرض لنا سورة القصص أيضا عناد وكِبر أهل المال الفاسدين, واغترار بعض الناس بما يملكونه, بل وتمني بعضهم أن يكون له من المال كما هو لأهل الفساد, فقد قال الله تعالى على لسان قارون وقومه ووصفا لما كانوا عليه :[قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)]. لتختتم الآيات بالتنبيه على إثم الكبر في قوله تعالى" لايريدون علوا, وجرم الفساد في قوله تعالى ( ولا فسادا), ليتبقى الفلاح الحقيقي في تقوى الله والتي تعصم من كل زيغ وكبر وانحراف وفساد. وفي التاريخ عبرة في تاريخنا العربي , وفي ظل الخلافة العباسية, ظهر نفوذ البرامكة, وهم كما يُسمون بالفارسية (برمكيان) وهم عائلة ترجع اصولها إلى برمك المجوسي من مدينة بلخ، ويُعتقد من جانب أخر أنها تنتمي إلى مجموعة من كهنة البوذية وحكمائها, وقد كان للبرامكة منزلة عاليه واستحوذوا على الكثير من المناصب في الدولة العباسية، مثلت حلقة واسعة من الوزراء والمستشارين والحاشية والأنصار وكان لهم حضور كبير في بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد،.حيث، قوي ساعد البرامكة وكانت الوزارة "المنصب الرئيس في الدولة بعد الخليفة" تنتقل وراثيا في عائلة البرامكة، ومن أهم وزرائهم: يحيى البرمكي، وجعفر بن يحيى، والفضل بن يحيى. وبدأت بعض حاشية الخليفة تضمر الشر للبرامكة بسبب تعاظم نفوذهم، واحتدم الصراع بين البرمكيين وخصومهم,إلى أن تمكن خصوم البرامكة بعد حشد كل طاقاتهم من اقناع الخليفة بالتخلص منهم. كان هارون الرشيد ذكيا، وكان يعرف نفوذ البرامكة في الدولة، وأدرك أن التخلص منهم ليس بالأمر السهل. لذا لجأ للحيلة ،إذ بدأ يقلل من نفوذ البرامكة وخاصة بعد وفاة والدته "الخيزران" وفي عام 802 ه وبعد أدائه الحج، وكتابة وصيته المشهورة عاد إلى مدينته الأثيرة التي أحبها وهي "الرقة" ومعه أبناؤه وقادته وحاشيته ومنهم البرامكة، وبعد ليلة سمر رائقة في مخيمه في الرقة، وفي منتصف الليل تحرك رجال الأمن المحيطون بالرشيد، واعتقلوا كل رجال البرامكة وأنصارهم، وهم بالآلاف, والغريب أن يصادف هذا اليوم 29 يناير 803 م ( وكأن التواريخ تواكب بعضها !!) - وفي داخل السجن, بعد الانتقال من السعة الى الضيق ومن العز الى الذل , ومن الجاه والسلطان الى الضآلة والصغار, تحدث جعفر بن يحيى لأبيه يحيى بن خالد بن برمك (وهما في السجن) " والوالد كن وزيرا وأبنه كان وزيرا أيضا " فقال له وهو في دهشة وذهول : يا أبتاه , ما الذي أتى بنا الى هنا ؟ فأجاب والده في لحظة ندم , في لحظة مكاشفة, في اجترار كبير للأسى : يا بني .. لعلها دعوة مظلوم , غفلنا عنها, ولم يغفل عنها اللهُ الذي لم ينم !! [email protected]