لا أعتقد أن طبقة مصرية تشعر بعدم الثقة في المستقبل قدر ما تشعر الرأسمالية الوطنية المصرية, في ظروف عدم اليقين الملازمة لفترة الانتقال بعد الثورة شأن جميع الثورات,عموما. وفي ظل افتقاد الثورة رؤية مستقبلية وبرنامجا عمليا وقيادة معترفا بها, خصوصا. وبغير إعادة ثقة الرأسمالية الوطنية المصرية في المستقبل, بضمان التوازن بين الحرية والأمن, وبين الربح والعدل, تبقي في مهب الريح كل الآمال المنعقدة علي اكتمال الثورة; بتحقيق تطلعات الأمة الي الحرية والعدل والكرامة والأمن والتقدم والريادة. ولا تعنيني هنا مجموعة رجال الأعمال, شركاء منظومة الفساد المنظم, الذين رفعت الدولة كل القيود علي جشعهم واستغلالهم باعتبارهم دعامة جريمة التوريث. فمصيرهم وشركائهم أمام القضاء بتهم ارتكابهم جرائم الاستيلاء علي المال العام: باغتصاب أراضي الدولة عبر تخصيص فاسد أهدر الثروة العقارية للأمة باسم ضرورات التوسع العمراني, وبيع أصول وأراضي الشركات العامة بأسعار رخيصة في عمليات خصخصة مشبوهة, ونهب قروض مصرفية قدمت من المال العام بغير الضمانات الواجبة, وتواطؤ أجهزة الدولة مع جرائم إقامة الاحتكارات والممارسات الاحتكارية وجرائم التهرب الضريبي والتهريب الجمركي وغسل الأموال وغيرها من ألوان الجريمة الاقتصادية المنظمة وآليات سرقة حقوق المجتمع والدولة. ولا أنكر أن الثقافة المناوئة لتفعيل المسئولية المجتمعية للاستثمار الخاص كانت لها الغلبة في سياق إحياء الرأسمالية المصرية الكبيرة, بعد الموجة العاتية للتأميم الاشتراكي في الستينيات ومنذ الإدارة الفاشلة للانفتاح الاقتصادي في السبعينيات. فقد تشكلت قمة الطبقة الرأسمالية الجديدة في ظل سياسات للإصلاح الاقتصادي تمت بتقويض دور الدولة في الضبط المحتم عمل السوق والضمان الواجب لعدالة توزيع الدخل, من جانب, وإضعاف دور المنظمات النقابية في المفاوضة والمساومة الجماعية دفاعا عن حقوق العاملين مع مراعاة التوازن الواجب بين الأجور والأسعار والإنتاجية والأرباح, من جانب آخر, والأهم ما جري من تجريف للثروة عبر الزواج الحرام بين السلطة والثروة تعزيزا لتحالف الطغمة المنتفعة من خيانة النظام الجمهوري بمؤامرة السعي لتمرير التوريث المشين, من جانب ثالث. والأمر أنني أقصد بالرأسمالية الوطنية المصرية, التي يتوجب علي الأمة أن تبعث لها برسائل تقدير وتشجيع وطمأنة, تلك القاعدة العريضة من أصحاب الأعمال المصريين, الصغار والمتوسطين والكبار, الذين أضيرت أعمالهم من تعطيل الإنتاج والفوضي الأمنية, وتحاصرهم مطالب اقتصادية عمالية تهدد الاستجابة الفورية لها بابتلاع هامش الربح ومن ثم توقف الأعمال. ولعل تلك الرسائل, التي يجب أن تصل من النخبة والمجتمع والدولة الي هذه الرأسمالية الوطنية المصرية في فترة الانتقال الراهنة هي: أن وطنية وقدرة القاعدة العريضة للرأسمالية المصرية باستثناء قلة فاسدة ليست محل شك, وأن الربح الخاص المشروع والمبرر لا يتعارض قطعا مع ربحية المجتمع, وأن مراجعة الإصلاح الاقتصادي تستهدف إقامة اقتصاد سوق يرتكز الي الكفاءة والعدالة باعتباره النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي لا بديل له. وفي رسالة التقدير أقول: إن كل التيارات الفكرية المؤثرة في مصر تحمل كل التقدير لدور بنك مصر في قيادة مشروع تصنيع مصر, باعتباره ركيزة للاستقلال الاقتصادي ومن ثم الاستقلال السياسي, كما تصور طلعت حرب مؤسس البنك ورائد التصنيع الرأسمالي الوطني في مصر. ورغم أن إخفاقات الانفتاح الاقتصادي قد جبت انجازاته, ورغم تشوهات النمو الاقتصادي بعد الاصلاح الاقتصادي, أعتقد أنه لم تتوافر لمصر فرص تماثل من حيث الإمكانية ما كان متاحا لها من مرتكزات التنمية والتصنيع, وهو ما تم وأده بانطلاق سيناريو التوريث; وما ارتبط به من سيطرة للرأسمالية الريعية والعقارية. ولكن يبقي أساس موضوعي للثقة في قدرة رواد الرأسمالية الوطنية المصرية علي النهوض بمهامهم في تسريع التنمية والارتقاء بالتصنيع, وهو ما نراه في الدور التأسيسي للمنظمين والمبادرين بالمدن الصناعية الجديدة. وفي رسالة التشجيع أقول: إن مصر تتوافر لها مقومات الانطلاق من رأس مال نقدي, وقوة عمل مؤهلة, وبنية أساسية للتدريب, وفرص لنقل التقنية والابتكار, وسوق داخلية وخارجية, وبنية أساسية إنتاجية. ولأول مرة لا تحاصر رأسماليتنا الوطنية بقيود رأسمالية أجنبية مهيمنة داخل وطنهم, كما كان الأمر في زمن التصنيع الرأسمالي الوطني, ولا تشلها مخاوف التأميم كما كان الأمر في زمن التصنيع اشتراكي التوجه بقيادة القطاع العام الصناعي. أقصد أن إطلاق عملية التصنيع تتوافر له ظروف تسمح بتجاوز الانجازات الرائدة بمقاييس زمنها لمجموعة بنك مصر تحت قيادة طلعت حرب استنادا الي زخم ثورة1919, وتخطي الانجازات الكبري بمقاييس زمنها أيضا للقطاع العام تحت قيادة عبد الناصر في سياق نضال مصر من أجل الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي في عهد ثورة يوليو. وفي رسالة الطمأنة أقول: إنه لا خلاف علي أن رجل الأعمال يسعي وينبغي أن يسعي الي تحقيق أقصي ربح ممكن; لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيري, ولأن تعظيم الربح يوفر حافز رجل الأعمال, المبادر والمنظم والمخاطر والمبتكر, ليكون فاعلا لا غني عنه في قيادة التنمية والتصنيع والتقدم. لكن هدف الربح, وهو منطقي وتاريخي ومشروع, لا يتعارض مع التزام رجل الأعمال بواجبات المسئولية المجتمعية, التي تعني تحقيق ربحية المجتمع جنبا الي جنب مع الربح الفردي. وقد كان صعود الدعوة الي تفعيل المسئولية الاجتماعية لقطاع الأعمال الخاص رد فعل استهدف تقليص العواقب الاجتماعية السلبية التي نجمت عن تقليص الدور الإقتصادي والاجتماعي للدولة في سياق الردة عن دولة الرفاهة المعنية بالمصلحة العامة وربحية المجتمع, الي نظام السوق الحرة المعني, أساسا وأحيانا حصرا, بالمصلحة الخاصة والربح الفردي. وقد أضيف هنا ما كتبته, في مقال مراجعة الإصلاح الاقتصادي بعد الأزمة العالمية, المنشور بجريدة الأهرام8 مارس2009, أقول: إن الإصلاح الاقتصادي ليس غاية في ذاته, لكنه مجرد وسيلة لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي, بتعظيم كفاءة تخصيص الموارد الوطنية, وتأمين عدالة توزيع الدخل القومي. ومن حيث وسائله, يتحقق الإصلاح الاقتصادي بسياسات وبرامج تستوجب المراجعة علي الدوام, طالما أنه لا نهاية للتاريخ عند نموذج ما للتقدم, ولأن الحياة تولد بالضرورة تناقضات جديدة تهدد أو تخل بالتوازن الواجب بين الكفاءة والعدالة! ومن زاوية أهدافه, فإن الإصلاح الاقتصادي عملية متواصلة, وهو ما نري برهانه في التجربة التاريخية والسياسة الراهنة للإصلاح الاقتصادي في أمريكا أكثر دول العالم تقدما! وقد صارت مهمة ملحة أمام مصر ما بعد ثورة25 يناير أن تعيد صياغة سياسات الإصلاح الاقتصادي لوقف خطر الانهيار الاقتصادي, ولكن بوسائل ترتقي بالاقتصاد الحقيقي والكفاءة الاقتصادية والتنمية الإنسانية! وفي تقديري أن مواجهة الأزمة الراهنة من منظور المستقبل توجب توجيه زيادة الإنفاق العام الي التعليم والبحث والتطوير للارتقاء بتنافسية المجتمع والمشروع, وهو ما يبشر به وعد حكومة شرف بتفعيل مشروع زويل, مع توفير كل الحوافز للاستثمار الخاص في تصنيع مصر والأمن الغذائي, وحماية السيادة الاقتصادية في القرار الاقتصادي والسوق الوطنية عند طلب المعونات الخارجية وجذب الاستثمار الأجنبي وتحرير التجارة والمدفوعات. وأخيرا, فان بناء المستقبل المنشود لمصر والمصريين بعد ثورة25 يناير يتوقف علي إقامة نظام إقتصادي اجتماعي يعظم كفاءة تخصيص الموارد ويحقق عدالة توزيع الدخل. نقلا عن الاهرام: