مرت بنا فى الأيام الماضية ذكرى اثنين من أعظم الشخصيات المصرية فى القرن العشرين..هكذا أقول وهكذا أؤمن عباس العقاد(13مارس) وعبدالمنعم رياض(9 فى مارس).. (العقاد) بقيمته الفلسفية الكبرى فى جمهورية الفكر و(رياض) بقيمته الاستراتيجية الكبرى فى جمهورية الوطن.. والاثنان حفظت لهما على المستوى الشخصى (جملتين) سيكون لهما أثر كبير وعميق عليّ وعلى كثيرين ممن انتبهوا لهما. الجملة الأولى قالها (عملاق الفكر العربى) وهو يتسلم جائزة الدولة التقديرية من الرئيس عبد الناصر عام 1959م.. (تلك هى جمهورية الفكر خير قرين لجمهورية الحكم)..لم يفهما ابو الهزائم فيما يبدو جيدًا.. أو فهمها وأصر على أن تكون جمهوريته.. جمهورية (الخيبات الكبرى).. قيل وقتها أن غلمان الزعيم أرادوا أن يظهر العقاد منحنيًا وهو يصافح الفرعون.. فوضعوا أمام عبد الناصر منضدة عريضة بالشكل الذى يجعل العقاد ينحنى عند مصافحته له لأن العقاد، كما كان عملاقًا بعبقريته كان عملاقا فى تكوينه الجسدى ولم ينحن عملاق الفكر العربى. والجملة الثانية قالها (حكيم العسكرية المصرية) الفريق عبد المنعم رياض (لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد وضميره الأخلاقى بغير معركة عندما أقول شرف البلد فلا أعني التجريد هنا وإنما أعني شرف كل فرد شرف كل رجل وكل امرأة)..قالها حين نمى الى علمه ميل عبد الناصر لقبول مبادرة روجرز والتفاهم مع إسرائيل وعودة سيناء دون معركة.. .............................. الهدية الأولى لذاكرة المصريين التى كلت وملت من الكذبة والأدعياء والجهلاء.. عباس محمود العقاد الظاهرة الفكرية الموسوعية التى لم يظهر لها مثيل حتى الآن.. والذى وصل في المعارف الإنسانية إلى الحدود التي جعلت منه صاحب رؤية كونية متكاملة.. بلغت مؤلفات الأستاذ العقاد 160 كتابًا وما يقرب من 15.000 مقالة فى المجالات كافة، وعلى الرغم من حديث الشيخ محمد الغزالى عنه(لم يخالط الإيمان قلبه!!)، وعلى الرغم من ضيق الأستاذ رجاء النقاش بما قاله الأستاذ العقاد عن الأستاذ البنا وجماعة الإخوان المسلمين ..إلا أن عطاء العقاد للفكرة الإسلامية ومشروع الإحياء عموما كان كبيرا وعظيما ..بما لا يجوز لأحد إنكاره. فنظريتة عن(الوجود الارادى)..أضافت إلى(العقل الاسلامى).. إضافة نوعية عميقة الإيمان.. والتى يرى فيها أن الوجود لا يمكن أن يكون إلا (إراديًا)، وبالتالى فلا يمكن أن يكون (عبثيا).. وتقوم النظرية على فكرة القصد وعدم عبثية الوجود.. وتدعو إلى الثقة والإيمان الصلب بان هذا الوجود يمضى على قصد الهي ثابت.. وهى النظرية التى تهدم كل نظريات الإلحاد والشك واليأس التى سيطرت على (العقل الغربى).. وفيها يبث العقاد (الموضوعية) فى الوجود (المادى) وفى مظاهر الأشياء..مستلهما النص القرأنى فى ذلك استلهاما فريدا.. ليصبح الإنسان أقرب إلى منابع الخير وأرحب شعورًا بحقيقة إيمانه "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ"، سنقرأ له التفكير فريضة إسلامية.. والإنسان فى القرآن.. وسيكون كتابه (الله) من أهم الكتب فى دراسة العقيدة .. دراسة جمعت بين علم مقارنةالأديان وتاريخ المذاهب والأفكار والمعتقدات الإنسانية مرورا بكل الأديان حتى وصل الإنسان إلى الإسلام، حيث(نزاهة التوحيد).... لن يقف العقاد موقف الدفاع -حاشاه أن يكون وهو العملاق- عن دراساته الإسلامية حين هاجمه العلمانيون والليبراليون واليسار ومن أرادوا لنا أن نكون مثلما يريدون أن نكون.. فيقفز فوق رؤوسهم جميعًا قائلًا (إن فرويد اليهودى حين كتب عن موسى.. ورينان المسيحى حين كتب عن المسيح.. لم يصفهم أحد بالرجعية والجمود وحين كتبت عبقرية محمد.. ضاق بها من يضمرون للإسلام الكراهية باطنًا.. وحيث لا يجرؤون على إعلانها ظاهرًا).. سنرى ذلك الآن وسنسمعه كثيرًا كل يوم بتخريجات شديدة الضحالة. الهدية الثانية (حكيم العسكرية المصرية )المثقف الاستراتيجي عبد المنعم رياض الذى كان قد قرأ له (عبقرية خالد) فكانت قولته الصدوقة عن القادة والقيادة (لا أصدق أن القادة يولدون إن الذي يولد قائدًا هو فلتة من الفلتات التي لا يقاس عليها كخالد بن الوليد مثلًا ولكن العسكريين يُصنَعون.. يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.. إن ما نحتاج إليه هو بناء القادة وصنعهم)..سنقرأ له أيضا ناصحًا جنوده (أن تتبين أوجه النقص لديك.. تلك هى الأمانة وأن تجاهد أقصى ما يكون الجهد بما هو متوفر لديك.. تلك هى المهارة)... حين سمع نزار قبانى هذا الكلام قال وهو يوجه حديثه إلى قادة الهزيمة فى القاهرة: لو يُقتَلون مثلما قُتلت.. لو يعرفون أن يموتوا مثلما فعلت/ لو مدمنو الكلامِ في بلادنا قد بذلوا نصف الذي بذلت /لو أنهم من خلف طاولاتهم.. قد خرجوا.. كما خرجت أنت../ واحترقوا في لهب المجد كما احترقت/ لو قرأوا – يا سيدي القائد – ما كتبت../ لكن من عرفتهم.. ظلوا على الحالِ الذي عرفت.. يدخنون يسكرون يقتلون الوقت/ويطعمون الشعب أوراق البلاغات كما علِمت.. /يا أشرف القتلى على أجفاننا أزهرت /يا أيها الغارق في دمائه.. جميعهم قد كذبوا.. وأنت قد صدقتْ/ جميعهم قد هزموا.. ووحدك انتصرت.. كان يشير فيما يبدو إلى أبى الهزائم وصديقيه الأثيرين المشير عامر والأستاذ هيكل .. فى صباح 9مارس 1969 قرر أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة ليرى نتائج المعركة وليشارك جنوده فى مواجهة الموقف وقرر أن يزور أكثر المواقع تقدما و التى لم تكن تبعد عن مرمى النيران الإسرائيلية سوى 250 متراً ووقع اختياره على الموقع رقم 6 إذ كان أول موقع يفتح نيرانه بتركيز شديد على العدو الإسرائيلي..والذى ما أن وصل إليه حتى وجهت إسرائيل نيران مدفعيتها بكثافة شديدة على المكان.. كان الرجل يؤمن بأن إسرائيل العدو الاستراتيجى الأول للأمة و أن العرب لن يحققوا نصرًا عليها إلا في إطار إستراتيجية شاملة.. سيكون الرجل أحد الثمرات الكريمة للزرع الخصيب الذى نثره (عزيز المصرى) فى جيشنا العظيم ..فى عز الفترة الأزهى والأغنى فى عصرنا الحديث(1919-1949م)..فيتخرج عام 1941م وفى عام 1944 ينال شهادة الماجستير في العلوم العسكرية ( ترتيبه الأول في التخرج).. وما بين عامي 1945 – 1946 يتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات في بريطانيا بتقدير امتياز.. سيشارك في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فلسطين عام 1948 و 1956, وسيتم إبعاده أثناء حرب 1967 من مركز الأعصاب الحساسة للقوات المسلحة بالقاهرة إلى حيث يوجد تاريخ الخيانات العربية الشؤومة فى عمان أثناء حرب 1967 وفي 11 يونيو وبعد أسبوع من الكارثة الكبرى..يستفيق الزعيم الكبير ويعلم حين لا يُجدى العلم أن العسكرية المصرية العظيمة بها من الأفذاذ ما يفوق عامر وشمس بدران و(جنرالات الليالى) الذين سلمهم جيش مصر العظيم كى يتفرغ للزعامة فى إفريقيا وآسيا.. فيختاره رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية .. كان إبعاده عن القاهرة أثناء حرب يونيه..عملية مخابراتية بامتياز.. وسنعرف أيضًا أن استشهاده لم يتم التحقيق فيه وحفظ نهائيًا.. وسيبقى إبعاده عن القاهر.. ومغادرة الخبراء الروس لمكان استشهاده كما روى أحد مرافقيه.. قبل أن تطلق المدفعية الإسرائيلية كل نيرانها على الموقع.. سيبقى كل ذلك أحد الألغاز الكبرى فى تاريخ (أم الهزائم) التى لا تزال تلد وتتكاثر كل يوم.. لينخرط الجميع فى دروب المساومة تحوطهم الخسة والخيبة والأكاذيب والخيانات..لتصدق مقولة الرجل عن ضرورة (حرب التحرير) للحفاظ على(الضمير الأخلاقى )للمجتمع. لكن الرجل تم إبعاده دائمًا فى أخطر الأوقات. بعد تسلمه قيادة أركان الجيش..يطلب الشهيد فورا قرارين جمهوريين ..أن تكون فترة شغل منصب رئيس الأركان محددة ب (4 سنوات على الأكثر) حتى لا يتعرض شاغل هذا المنصب العسكرى الحساس للصدأ أو الانقطاع عن التطور بطول المدة ..وحتى لا يصبح المنصب حكراً وحتى يفتح باب المنصب أمام نهر القيادات العسكرية الشابة فى القوات المسلحة ويعطى الفرصة للجميع وبالفعل وصدر القرار جمهوري .. والثانى توسع القوات المسلحة فى تجنيد حملة المؤهلات العليا كون الجندى المتعلم يستخدم سلاحه استخدامًا صحيحًا ويصونه ويتحد معه ويستغرق تدريبه ربع المدة اللازمة لتدريب غيره وبما يخدم تكوين جيش قوى وعالمى الكفاءة فى أقل وقت ممكن غير جيش (برقبتى ياريس)..الذى حارب فى 67م. مثالية شامخة وخيال حى وعظمة روحية عميقة ..كانت تسكن أعماق الرجلين ..ولتبقى سيرتهما تضىء ذاكرة وعينا بنا ولنا وعنا بعضًا مما يحفظ لنا إحساسنا بالكرامة والقيمة والمعنى.