يقوم منهج الاصلاح و التغيير الحقيقي على تلك القاعدة العظيمة التي حددها الله تبارك و تعالى في آية معجزة بليغة قليلة الكلمات في مبناها عظيمة الأثر في معناها ، قال تعالى ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) الرعد/11 ، و قال في الأنفال/53 ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )). فلا يبدل الله حال أمة من ضعف إلى قوة حتى يغيروا ما بأنفسهم إلى ما يحبه و يرضاه و لا كذلك يبدل حال أمة من قوة و منعة و تمكين إلى ضعف و هوان حتى يبدلوا نعمة الله عليهم و الآيات في هذا المعني كثيرة في كتاب الله و منها قوله تعالى في سورة النحل/112((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )) و إن كان المثل المضروب هو لمكة حال كفر أهلها ببعثة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أنه في جانب آخر قد لا يعني الكفر هنا الخروج من الملة و لكن معناه كفر النعمة و الاغترار بها و نسيان المنعم سبحانه و تعالى و استخدام نعم الله في التجرؤ على المعاصي و الذنوب من مثل الربا و الزنا و السرقة و ما إلى ذلك من الموبقات التي على أسبابها يكون خراب المجتمعات و فساد أحوالها ، و قال تعالى في نفس المعنى في سورة ابراهيم/28 ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ )) ، فالله عز وجل ((لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )) يونس/44. إذن يقوم منهج الاصلاح المعتبر على إصلاح الفرد و تزكيته ، كما قال تعالى ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )) الشمس/7-10 إن إصلاح النفس الانسانية هو بداية الاصلاح الحقيقي ، و الاصلاح بدون ذلك يكاد أن يكون خيالا و سرابا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . و لذلك رأينا باضطراد أن الاصلاح الذي يبدأ نخبوي أو من أعلى و لا يركز على إصلاح النفس و تزكيتها لا يجدي على أهله شيئا. إن الأنظمة السابقة المتعاقبة على مصر ركزت في الأساس في استتاب مملكة الاستبداد و الفساد على إفساد الانسان ذاته ، ثم تركته يكمل تلك المنظومة الآسنة فلم يقصر في استكمال مشوار الهدم و الافساد دون توجيه من أحد ، فانتشرت و ترعرت الرشوة و المحسوبية و السرقة و الاختلاس و الكسب الغير مشروع بصفة عامة ، و ضعف الانتماء الحقيقي للوطن المتمثل في البذل و العطاء إلا ما نراه من الشعارات الجوفاء في الحب الفارغ و الكلام المعسول و الأغاني و الأناشيد بغير مضمون حقيقي (و متقولش أيه اديتنا مصر و قول حندي إيه لمصر) ، و لو جمعت كمية الأغاني و الأناشيد التي ألفت و تغني بها المطربون في حب مصر لفاقت ما غناه العالم أجمع كل في حب بلده ، و لا تجد على مستوى العالم كم تلك المؤلفات و التشدق في الحب كما تجدها في حبيبتنا المنكوبة مصر ، فبلاد العالم الأول تجد حبا حقيقيا للانسان لبلده يتمثل ذلك في إرادة نهضتها و السعي في رقيها و أن يكون لبنة حقيقية في بناء وطنه ، بعدما أعطته بلده الكرامة و الحرية و حسن المعاملة و العدل و العدالة الاجتماعية ، فهي معادلة من طرفين لا يمكن أن يتحقق طرفها الثاني بدون استحقاقات الطرف الأول ، فلايمكن أن يكون المواطن معطاء محبا لبلده متفانيا في خدمته يشعر بالانتماء و الولاء إلا حينما يوفر له وطنه مقومات الانتماء و الولاء الحقيقي مما ذكرناه من الحرية و الكرامة و العدالة. إن مناهج الاصلاح الحقيقي إن لم تؤسس على قاعدة هرمية بحيث يبدأ التغيير من صلاح النفوس و تغيير قواعد المجتمع الشعبية و الحاضنة الأساسية لأي تغيير ثم ما تلبث رويدا رويدا أن تتسع رقعة القاعدة الصالحة شيئا فشيئا و من ثم تبدأ صفوف القواعد الهرمية تزيد صفا صفا إلى أعلى حتي يغلب على لبنات الهرم الصلاح فعندئذ يكون من الطبيعي أن تصبح قمة الهرم على درجة عالية من الصلاح و الاصلاح و قد توفر لها القاعدة الحاضنة التي تستحيل على الافساد بفعل بعض من يريده. إن طريق الاصلاح طريق طويل و إنما أوتي مريدو الاصلاح من العجلة و إرادتهم رؤية مساعيهم الاصلاحية في حياتهم ، فكان حينما سنحت لهم الفرصة بالقفز إلى أعلى سارعوا باغتنامها و ظنوا أنهم يستطيعون فرض رؤيتهم الاصلاحية على قاعدة لم تتهيا لما يريدون فلم تكن لتحملهم و لم يلبثوا إلا قليلا ثم سقطوا من علٍ. قُبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ير فتوحات الاسلام خارج جزيرة العرب ، و توفي نبي الله موسى و لم يفتح الأرض المقدسة و فتحت من بعده ، و لم ينصر منهج أهل السنة بعد إفساد المعتزلة و الذي عذب و سجن من أجله أحمد بن حنبل مثلما نصر بعد موته رحمه الله إن الاصلاح نبتة علينا بغرسها و السعي في ريها و مازالت تقوى جذورها و لو جيلا بعد جيل حتى ياذن الله بالأكل من ثمرها و ينعها و تلك منة من الله تبارك و تعالى ، فالتمكين منة من الله عز وجل يهبه لمن يشاء ممن أراد من عباده ، و ما على المرء إلا السعي في أسبابه و غرسه و ليس عليه إدراك نتاجه ، فهو فضل الله يؤتيه من يشاء. و لو أعمل المصلحون تلك القاعدة ما احتاجوا أن يتعجلوا و لطابت نفوسهم و هدأت و صبروا على ما حملوا حتى ياتي الله بالفتح أو أمر من عنده.