أثارت مقالة الدكتور فيصل القاسم "أيها المغتربون ... استمتعوا بالحياة حيث أنتم" وما تبعها من مقالي د. محمد سعد أبو العزم "أيها المغتربون.. متى تبدأ حياتكم؟ ثم مقاله الثاني "أيها المغتربون.. من هنا نبدأ" وما تبعهم من تعقيبات ردود فعل واسعة بين شرائح مختلفة ممن عانوا الغربة والاغتراب؛ لأنها بالفعل قد لمست وترًا حسّاسا عند ملايين المغتربين ممن حملتهم الأوضاع المتردية على الهجرة قسرا؛ أو دفعتهم طموحاتهم إلى الهجرة رغبا. ثلاث مقالات ماتعات حملت رؤيتين مختلفتين لموضوع الغربة والهجرة والنظرة للحياة؛ كما حملت تجربة حقيقية لأشجان الاغتراب يلمسها كل من لفحته نيران الغربة وهجيرها؛ أو قاسى آلام برد شتائها وجفاف مشاعرها؛ وإن كنت أحسب أن هذا الاختلاف في وجهتي النظر وثيق صلة بثقافة الشعبين (الشامي والمصري). وفي الجملة فقد عبر هذا الاختلاف عن ثقافتين متغايرتين؛ ووجهتين نظر في الحياة مختلفتين. إن الحنين للأرض التي شهدت معالم النشأة الأولى ومرابع الصبا والشباب هو أمر مركوز في فطر النفوس مشروع في دين الإسلام؛ فلقد حن الحبيب لمكة وأقسم إنها لأحبّ بلاد الله إليه؛ ولولا أن أهلها أخرجوه منها ما خرج. وبلال الذي ضحّى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بأسمى آياتِ الحب والحنين لوطنه مكةَ (ولم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك) وكان ويترنم في أبيات تسيل رقة وتقطر عذوبة: ألا ليت شعري هل أَبِيتَنَّ ليلةً .... بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنةٍ ...... وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ وعندما قدم أصيل الغفاري من مكة في بداية الهجرة وسألته السيدة عائشة عن مكة فوصفها وأحسن الوصف وأجمل؛ جرى دمع الرسول حنينا إليها عندما سمع وصف أصيل وقال: "يا أصيل دع القلوب تقرّ"؛ أي لا تهيج أشواقنا إلى الأوطان. لكنه صلى الله عليه وسلم هاجر واستوطن المدينة وأضاءت بوجهه الشريف ربوعها؛ ذلك أن التصور الإسلامي يجعل من أرجاء الأرض وطنا للمسلم. وكلما ذكر اسم الله في بلد ...... عددت أرجائه من لب أوطاني لم يعرف عن المصريين أنهم أهل هجرة أو أهل اغتراب أو أصحاب سفر بنية الإقامة الدائمة وإن عاش المصري عمره خارج بلده يظل يحسب موعد الرجوع بالشهور والأيام؛ ويحلم إن مات بالدفن في قريته التي أخرجته. وإن كنت أحسب أن الزمن في الربع قرن الأخير قد تجاوز مقولات جمال حمدان (رحمه الله) الكلاسيكية حول عدم هجرة المصريين وارتباط الفلاح الوثيق بأرضه وبمجتمعه النهري الزراعي. فلقد باع الفلاح المصري أرضه وجاموسته؛ بل واستدان واغترب إلى أرض مجهولة يجري وراء سراب حلم الثروة السريع؛ وقد يقع ضحية للمتاجرين في البشر وبائعي الأوهام في مصر وخارجها؛ ولعل ذلك بفعل تزايد معدلات العلمنة في المجتمع التي غزّت سعار الشهوات (مسكنا وملبسا ومأكلا ومركبا) فكان البحث عن الربح السريع هو الحل بل طوق النجاة؛ فانتشرت كبسولات الوهم: مسابقات اتصالات وجوائز ومن يكسب المليون وأسئلة وهمية لجوائز أكثر وهمية حتى أفتى بعض العلماء بحرمة تلك المسابقات؛ لكن يبدو أن تزايد معدلات العلمنة في المجتمعات العربية جعل الشعوب لا تلتفت كثير لأقوال العلماء وفتاويهم. بلغ عدد المصريين في الخارج سبعة ملايين -حسب تقديرات وزارة الخارجية- أو ثمانية ملايين - حسب أرقام وزارة القوي العاملة- ولا زال نزيف الهجرة مستمر بفعل أوضاع متردية وظروف قاهرة ومستقبل أشد قتامة؛ ولو افترضنا أن كل مغترب يعول ثلاثة أفراد لأدركنا حجم ظاهرة الاغتراب في المجتمع المصري؛ إذ أن ما يقرب من ربع الشعب أضحى مغتربا؛ أو يعيش بشكل أو بآخر تجربة سفر؛ كما لم تعد ظاهرة اغتراب وهجرة المصريين قاصرة على فئة أو شريحة دون أخرى، بل امتدت لتشمل جميع الفئات والمهن والأعمار، وشملت الرجال والنساء. ولم تكن مصر طاردة لخيرة أبنائها مثلما كانت في السنوات الأخيرة. ولا يستطيع الإنسان أن يعيش قصة أمّته الكبرى إن غاب عن قصته الصغرى؛ وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت؛ أو من يعول؛ أو من يعول قوته؛ حسب الروايات المتعددة للحديث؛ وكلها صحيحة. وإذا كان هناك من يعيش في الغربة فهناك من تعيش فيه الغربة وهو داخل وطنه وبين أهله وناسه؛ وما أشد الغربة في الأوطان وما أقسى خداع الخلان؛ وظلم من جمعتك بهم مودات وقربى الذي هو أشد مرارة. فلا تحدثني عن الغربة ومراراتها ولكن حدثني عن الغدر والضرب في الظهر وتحت الحزام وغياب المروءات ونهش الأعراض والتقاتل على أوهى الأسباب؛ من صدق فيهم قول الشاعر: وإخوان حسبتهم دروعا .... فكانوها، ولكن للأعادي وخلتهم سهامًا صائبات ..... فكانوها، ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوبٌ ..... لقد صدقوا، ولكن من ودادي أراني أميل فكريا ونفسيا إلى منطق فيصل القاسم (النمط الشامي): أن تستمتع بالغربة حيث أنت؛ وتعيش الحياة التي أنت فيها ولا تعلق على غائب ربما لا يأتي (والتعليق على مجهول وهم) ولا تكن ممن يترك مالك كله ويحاسب عليه كله. وما أجمل قول عمر بن عبد العزيز حينما حضرته الوفاة لما سئل: ماذا تركت لأولادك؟ فقال: تركت لهم تقوى الله! فقيل له كيف؟ قال: إن كانوا صالحين (فالله يتولى الصالحين) وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم شيئا يستعينون به علي معصية الله. وأجمل منه قول الحبيب محمد: لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس والبصير الصادق من يضرب في كل غنيمة بسهم كما يقول ابن القيم؛ فيعدّ أبناءه على مواجهة تكاليف الحياة؛ ويترك لهم ما يستعينون به على مواجهتها؛ لا يحرم نفسه فيكره حياته؛ ولا يحرم أبنائه فيتمنون موته؛ يعيش مع أبنائه لا يعيش من أجل أبنائه؛ هو وهم في قارب واحد؛ لا يهلك نفسه في الدنيا والآخرة من أجل نجاتهم؛ ولا يُذهِب نفسه عليهم حسرات؛ ولا يقبل الدنيّة في عرضه ومروءته من أجل أن يوفر لهم مستوى من الرفاهية ربما تعاملوا مع باعتباره حقا مكتسبا؛ لا نِعَم يُحمد الله عليها وهي محض فضل الله علينا جميعا. أعجبتني مقالتي دكتور أبو العزم خاصة الثانية التي مثّلت خريطة نجاح لرجوع آمن لا يعقبه ندم؛ وأعجبني أكثر تأكيده على أن كلامه ليس دعوة للرجوع أو الإقامة؛ لكنها هي دعوة للتفكير (أطلب منك أن تقرر ماذا تريد أن تفعل؟) ولتحديد أهداف واضحة في الحياة (وهو ما يفتقده أكثرنا) وأهداف يمكن تحقيقها لا تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. أهداف يمكن أن يراها المغترب في المدى القريب ولا تكون كالرمال المتحركة التي كلما غاص فيها كانت عاقبته أشد نكالا؛ ولا تكون كلما وصل إلي تحقيق جزء - ولو كبير منها- فتحت له آفاق أكثر من طموحات دونه تحقيقها خرط القتاد. ومزيد من استنزاف المروءة والكرامة. فكثير من الذين اغتربوا كانت أحلامهم متواضعة جدا في البداية ثم ظلت الرغبة في تأمين المستقبل تتعاظم حتى طالت الأبناء وبعض المغتربين يفكرون في تأمين مستقبل أحفادهم؛ ولا ينبئك مثل خبير. لا أدافع عن الغربة ولا عن الإقامة؛ فالحل والترحال هو في النهاية قرار شخصي واجتماعي ونفسي قبل أن يكون قرارا سياسيا أو اقتصاديا. لكن كثير ممن يفكر بالرجوع لوطنه يراوده التساؤل: أي أوطان هذه التي دفعت أبنائها للكفر بها كفرا بواحا عندها فيه من الله برهان؟ وأي أوطان هذه التي تريد أن يبكي عليها المغترب؛ وهي التي لم تبك على أحد من أبنائها؟ وتظل الرغبة في الرجوع قائمة؛ لكن أحسب أن أكثر من يريد الرجوع لا يدفعه إلى هذا القرار إلا الحرص على مستقبل أبنائه؛ إن ظن أن لهم في أوطانهم مستقبلا.