نعم إنه المجهول.. في البداية أمامي عام يتلوه عام، وهكذا دواليك تمضي بنا الأيام ولا جديد، الرعب يسكن في القلوب من مجرد شبح العودة، بل حتى الأجازة أصبحت عبئًا علينا، ولكن ما من حل يلوح في الأفق. كان هذا هو تعليق القارئ العزيز "محمد علي"، ويبدو أني بدون قصد قد لمست وترًا حساسًا عند الملايين ممن يعيشون في الغربة، وهو ما عبر عنه العدد الهائل من التعليقات والرسائل التي تلقيتها خلال الأسبوع الماضي تعقيبًا على مقال (أيها المغتربون متى تبدأ حياتكم)، ولكن الواضح أيضًا أن هناك انقسامًا وتباينًا في الآراء، عبر عنه قارئ آخر (مغترب الإمارات) الذي وجد أنه "يلقى أفضل معاملة هناك منذ سنوات، يعيش حياة كريمة هو وأولاده، يرى أن وطن الإنسان حيث يحترم ويكرم، ومن الغباء أن يترك هذه النعم ويذهب إلى المجهول، لماذا العودة إلى بلدنا التي دائماً نعطيها ولا تعطينا؟ نحبها وتكرهنا؟ نهفو إليها وتطردنا؟ يبدو أن بلادنا ليست لنا". حينما أتحدث عن قضايا ومشكلات المغتربين في الخارج، فأنا أعني الغالبية العظمى منهم، ممن ترك الوطن بحثًا عن فرصة عمل أفضل، صحيح أن هناك البعض يتواجد في مهمات علمية أو دراسية، والبعض الآخر أغلق أمامه باب الوطن لظروف خارجة عن إرادته، ولكني اليوم أتحدث عن غالبية المغتربين ممن خرجوا بحثًا عن أسباب الرزق في الخارج، وهناك وجدوا أحوالاً أفضل بكثير، واستشعروا فجوة حضارية كبيرة بين مصر وباقي الدول، مما أدى لتغيير الهدف الأول الذي من أجله كان السفر. مرة أخرى عزيزي.. أتوجه إليك ببعض الأسئلة، وأطلب منك أن تكون صادقًا مع نفسك في الإجابة عليها، لعلها تساعدنا في الوصول إلى حل لتلك المشكلات المزمنة في حياتك قبل فوات الأوان: هل تعتبر أن الاغتراب في الوقت الحالي يمثل لك وسيلة أم غاية؟ بمعنى آخر هل اتخذ قرارًا واضحًا بالبقاء في الغربة إلى الأبد؟ أم أنك ستعود إلى الوطن يومًا ما؟ ومرة أخرى أرجوك بألا تهرب من الإجابة، أو أن تربطها بتغيير أحوال الوطن، وتحوله فجأة إلى وطن آخر يحترم حقوق الإنسان، ويوفر لك الفرصة اللائقة، أو لعلك ستخبرني أن الإجابة على هذا السؤال مؤجلة مؤقتًا لأن أبناءك في مقتبل عمرهم، ولازال هناك الكثير من الوقت حتى تظهر مشكلات الغربة الأكبر، وعندما يحدث ذلك (يحلها ألف حلال)، أرجوك يا عزيزي ألا تختر واحدة من الإجابات السابقة، لأن جميعها يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي.. إزاحة القنبلة من فوق سريرك لتخبئها تحته، أملاً ألا تنفجر في وجهك، صدقني .. إن تأجيل مواجهة المشكلة ليس هو الحل، وإنما اتخاذ قرارك الحاسم من الآن هو ما سيضمن راحة بالك، كما يضمن لك تخطيطًا أفضل لمستقبلك. إذا كنت ممن اتخذ قرار العودة إلى بلاده يومًا ما، فإليك عزيزي هذه الوصفة التي جربها الكثيرون وأثبتت نجاحًا فاعلاً؛ في البداية أنت مطالب بأن تحضر ورقة وقلمًا، وتكتب من الآن هدفًا واضحًا للغربة، هذا الهدف يجب أن يكون محددًا بتحقيق إنجاز مادي ملموس، يتمثل في جمعك لمبلغ محدد من المال، أو تمكنك من شراء الشقة التي تتطلع إليها.. أو غيره، كما يمكن أن يكون هدفك محددًا بمدة زمنية، بغض النظر عما تحقق من إنجاز مادي خلالها، فتضع لنفسك سقفًا زمنيًا لبضعة سنوات، وتبدأ من الآن في التفكير لمرحلة ما بعد العودة للوطن، وهي اللحظة التي كثيرًا ما نؤجل التفكير فيها، نتيجة الخوف من المجهول، وعدم توافر الثقة في الحصول على مصدر دخل ملائم وحياة مستقرة، كتلك التي تعيشها الآن، ولكن ما دمت قررت الرجوع فلا تتراجع، وابدأ في التخطيط لذلك اليوم، هل ترغب في أن يكون لك مشروعك المستقل؟ أم تفضل أن تكون موظفًا؟ وبناء على إجابتك يجب أن تبدأ من اليوم في تأهيل نفسك معرفيًا ونفسيًا لتلك اللحظة، أعرف أن الكثير من قصص الفشل تدور في بالك، معارف وأصدقاء عادوا من الغربة ثم ندموا على رجوعهم، بعضهم أضاع ما يملك من (تحويشة) العمر في مشروع فاشل، وبعضهم تعرض للنصب من أحد الأقارب أو الأصدقاء، والبعض الآخر لم يجد فرصة عمل ملائمة فاضطر إلى العودة للخارج مرة أخرى، ولكن ما يجمع هؤلاء جميعًا أن عودتهم للوطن لم تكن مدروسة، فلا المشروع تمت دراسة جدواه بشكل دقيق، وتم الاستعانة فيه بأهل الخبرة والثقة، ولا الوظيفة تم الاستعداد لها بالشكل الملائم، فسوق العمل تغير كثيرًا في السنوات الأخيرة، وأصبح في حاجة إلى أصحاب المهارة والإمكانيات الخاصة ممن يجيدون عرض بضاعتهم، وبالرغم من اعترافي بأن الواسطة والمحسوبية أحيانًا ما يكون لها دور في إيجاد الوظيفة، إلا أني أسألك مرة أخرى: إذا كنت صاحب عمل وترغب في زيادة استثماراتك من خلال 100 وظيفة، فكم منهم ستختار من أصحاب الكفاءات الحقيقية، وكم ستختار من المعارف والوسائط؟ أعتقد أنه مهما تفاوتت الإجابات فإنها ستدور جميعًا في فلك حرص صاحب العمل على تنمية أعماله، من خلال توظيف العدد المقبول الذي يمكنه من تحقيق ذلك، فلماذا لا تكن أنت ذلك الفرد صاحب الكفاءة الذي يبحث عنه الآخرون. يجب أن أذكرك عزيزي.. يا من اتخذت قرار العودة، بأنك ستجد الكثير ممن يثبط همتك تجاه ذلك القرار، ويعتبرك شخصًا يرفس النعيم بقدميه، ولكني أنصحك بأن تعلو بهمتك، وتضع هدفك أمامك بوضوح، فأنت فقط من سيعيش تلك الحياة، كما أنصحك من الآن بأن تعقد العزم على تقديم شيء ما لإصلاح حال مجتمعاتنا، أنت الآن في بيئة تساعدك على النظام واحترام حقوق الغير، وهي تختلف عن المناخ السائد في أوطاننا، ولكن إذا قررت أن تصبح قدوة لغيرك في الانضباط فسوف يتغير حالنا كثيرًا، ما أسهل أن نرمي المسئولية كلها على الحكومات، وهي فعلاً المتهم الأول في قضية تردي أوضاعنا، ولكنك أيضا تتحمل جزءًا من تلك المسئولية إذا قررت أن تتفرغ للانتقاد والبكاء على الماضي الجميل، وهنا لا أجد أفضل من تعليق القارئ العزيز (الدكتور نبيل) الذي طالب فيه كل المغتربين "بأن يصبح لهم مشروع لكيفية تفعيل حياتهم، إما حيث هم في الغربة، وإما بالعودة لأوطانهم ، لن يسألك الله أين كنت تعيش؟ بقدر ما سيسألك ماذا كنت تفعل؟ المهم أن تكون لك في الحياة مشاريع تترك من خلالها البصمة والتأثير، لا أقصد مشروعًا هدفه العائد المادي، ولكنه المشروع الذي يؤثر ويطور ويغير، فيثقل موازين الحسنات، عوضًا عما فاتك من سنين حرمت فيها من التأثير، وعزلت عن دوائر التغيير، إنه (مشروع الخاتمة) الذي به تبدأ بالفعل حياتك الباقية. وأخيرًا عزيزي المغترب.. إذا كنت ممن اتخذ قرارًا شجاعًا وصادقًا بالبقاء في الغربة إلى ما شاء الله، فاسمح لي أن أشكرك على صراحتك مع نفسك، وأهنئك على تحديدك لهويتك، ورؤيتك لمستقبل حياتك، وانتظرنا في حديث خاص من القلب، معك في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]