إذا كان الإسلاميون – بحكم بنيتهم الفكرية و المعرفية - قد عجزوا عن تقديم خطاب حداثي يستطيع إقناع شعوبهم بقيمة مشروعهم السياسي ، فكانت ملامح مشروعهم (الوجداني و الأخلاقي) تتلخص في مصطلحات من قبيل العفة و الفضيلة و المساواة و العدالة دون وجود أسس واضحة للممارسة السياسية ، والتنمية الاقتصادية ، ودون وجود قائمة لأولويات القضايا الرئيسة التي تجعل الجماهير تلتف حول مشروعهم ، فإن العلمانيين في الجانب المقابل قدموا خطابا علمانيا سطحيا ، يركز على قضايا المرأة والحريات الشخصية في تجاهل تام لأهمية العملية الديمقراطية و نزاهة الانتخابات و الحريات السياسية ، فلم يختلفوا عن الإسلاميين في ترتيب أولويات العمل السياسي ، حتى أصبحت العلمانية كلمة سيئة السمعة ، وقد ساعد ذلك في تقديم مشروعات بديلة للعلمانية و الإسلام تكرس للاستبداد بدعوى تحقيق الأمن و السلم الداخلي . لقد استنفد الفريقان رصيدهم السياسي لدى الشعوب نتيجة لذلك الهامش الضيق الذي كان يهيمن على خطابهم الفكري مع غياب للمنظرين المستنيرين والحقيقيين أصحاب الرؤى الواقعية ، فتصدر للتنظير مجموعة من الهواة البائسين ، وبدلا من أن يركز كل تيار على تقديم برنامجه و مشروعه القادر على الجذب و الإقناع ، وجدنا أن قضية تشويه الآخر و التنفير منه هي أقصى ما يطمح إليه كلاهما .و ما زال العلمانيون العرب يستدعون قصة الراهب الإيطالي جيرولامو سافونا رولا Girolamo Savonarola (1452-1498) المعروف بعادوته للثقافة و الفن و المبشر بعودة المجد المسيحي ، كما أنه استهجن فساد الكهنوت و استغلال الفقراء ، لكنه كان عنيفا في سعيه للتغيير الاجتماعي القائم على التغيير التدريجي و الواقعي ، فأخذ يحرق الصور و الكتب و التماثيل و كل مظاهر الفساد الأخلاقي من وجهة نظره ، وسبب الكثير من المتاعب لمدينة فلورنسا الإيطالية بسبب منهجه العنيف وعدم توفير الحياة الكريمة و اللائقة للجماهير التي لا تستطيع تحمل الجوع و التقشف الاقتصادي و المعارك الفكرية ، حتى عزله البابا عام 1497 وصدر قرار بإعدامه عام 1498، كما أحرقت جثته بحريق هائل . وهي نهاية طبيعية للجمود و الرجعية و العنف ولكل فكر هدام . وهي الأزمة التي لم يسببها بعض الإسلاميين فقط ، بل و بعض العلمانيين كذلك ،فكل من يدعو إلى إحراق الكتب و الفن و الأفكار مهما كانت ، والزج بالمخالفين في المعتقلات و السجون هو سافونا رولا ولو كان علمانيا . من حق كل إنسان أن يعتنق ما شاء من أفكار و مذاهب و آراء ، من حق كل إنسان أن يكون له موقفه السياسي و الديني و الأخلاقي . إن هذا الاختلاف و التنوع الثقافي cultural diversity هو أحد أهم عوامل الحداثة الحقيقية ، وهو دعامة فلسفية مهمة من دعامات فلسفة هيجل أو ما يسمى بالديالكتيك dialectic ، ففكرة الأطروحة thesis و الأطروحة المضادة antithesis هي التي تؤدي إلى نمو وتطور الفكر البشري ، وهي التي تجعل التفكير في صيرورة مستمرة تؤدي إلى مفهوم (الصلاح) ، وهي الفكرة التي يؤيدها القرآن ويدعو إليها : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. فالذين يدعون إلى الصوت الواحد و الرأي الواحد و الصنم الواحد هم مفسدون في الأرض.