يحتل الدين مكانة مهمة في الحياة الإنسانية، ولا نستطيع أن نتخيل مجتمعاً بشرياً خالياً من أي دين، ولا يزال الدين من أهم القضايا التي تشغل البشر؛ سواء كانوا متدينين أم لا دينيين، يشغلهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. يشغلهم في كل المجالات حتى تلك التي تواطأت أفهام وممارسات فئات نافذة على إخراجه من بابها بقوة، وها هو يعود من النافذة، ويصبح أكثر حضوراً في المجال العام وفي العادات والطقوس الروحانية الخاصة والعامة، لكن الجديد في هذه العودة أنه يقاوم وينتشر في شكل جديد وغامض ومتداخل مع مصالح غاية في التعقيد، فإذا كان بعض المفكرين يعتبرون القرن التاسع عشر؛ هو قرن الشك والإلحاد (انظر: كتاب، عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس العقاد، طبعة دار المعارف ص25)، فإن القرن الحادي والعشرين ربما يكون خلاف ذلك، كأن يكون قرن العودة للدين وانبعاث المارد اللاهوتي من جديد. هذا الادعاء المستقبلي ليس علمياً بشكل نستطيع البرهنة عليه بشكل مؤكد، ولكن هناك مؤشرات كثيرة تدل عليه، أبرزها في عصرنا الحاضر؛ تعالي الأصوات الغربية في نقد العلمانية لمصلحة الديّانية، وعودة القوميات باعتباراتها الماضوية، والتي غالباً تنبعث هوياتها وفق سياقات دينية مستقلة، كما أن الحداثة كمشاريع علمية وتنموية أصبحت في يد دول استعمارية ساهمت هيمنتها الاستغلالية في إقناع الشعوب-كرد فعل- بالعودة نحو الديني. ويمكن أن أعود الى دراسة معهد غالوب حول «توجهات التدين عبر العالم»، والتي صدرت نهاية شهر آب(أغسطس) 2010م، وخلصت الى نتيجة مفادها أن «الدين ما زال يلعب دوراً مهماً في حياة العديد من الناس، الذين يعيشون في العالم. وأن النسبة المتوسطة العالمية للبالغين الذين قالوا إن الدين جزء أساسي في حياتهم اليومية بلغ 84 في المئة، وفي عشر دول ومناطق على الأقل هناك 98 في المئة قالوا إن الدين أساسي في حياتهم اليومية». وقد شملت الدراسة التي أنجزت خلال سنة 2009م، 114 دولة عبر العالم. هذه المقدمة هي لأجل محاولة فهم عدد من التساؤلات التي يجب أن نطرحها في عالمنا العربي المغيّب عن ذلك الحراك القوي والجدل العميق حول علاقة الدين بالعلمانية ونتائجه التي لن يسلم منها أحد من العالم، ففي الوقت الذي يتنامى فيه الخطاب العلماني؛ خصوصاً بعد ما سمي بالربيع العربي، تشهد العلمانية خريفها في مواطنها الأولى التي تألقت فيها وتسامت كأنموذج عالمي للاقتداء، ومع تنامي المشروع العلماني في دولنا العربية في مقابل تنامي العودة للدين أيضاً، تثور مجموعة من التساؤلات أسوقها في النقاط التالية: أولاً: كيف لنا أن نلحظ أمرين متغايرين ينموان بازدياد في بيئة واحدة، وأصل البقاء فيهما يعتمد على إلغاء الآخر، وكيف نجمع بين تنامي الدين في العالم ومنه المجتمعات العربية، وبين ازدياد وتيرة العودة للعلمانية في الوقت ذاته؟ ولمحاولة تفسير هذا الأمر أضع احتمالين لهذا الاتساق المتباين: أحدهما: أن في عالمنا العربي يضعف الانسجام بين مكونات الشعب ومؤسسات الدولة، والفاصل بينهما ليس اجتماعياً وسياسياً فحسب؛ بل حتى في مجال التفكير وردود الفعل حيال التحديات والتهديدات، فلا نستغرب أن يكون الشارع العربي يعود للديني كمجال يجد فيه حلولاً لمشكلاته واحتياجاته، بينما تزداد حاجات مؤسسات الدولة لتبني العلمانية وتنزيلها ب(الباراشوت) داخل دوائرها الرسمية، مُغفلةً بشكل واضح مجالها الديني والاجتماعي. التفسير الثاني: وهو متعلق بشأنٍ فلسفي وسياسي عام؛ فقد بات من المؤكد أن هناك إجماعاً داخل مدارس الفكر المابعد علماني ذي التوجه الفلسفي؛ على أن الدين والعلمانية ينبثق بعضهما من بعض ويعتمد بعضهما على بعض. هكذا، يحاججون على أن هاتين العمليتين متلازمتان، إذ إن الدين كما تطور في الغرب كان دائماً حاضراً في جميع الظواهر العلمانية، حتى عندما يبدو غائباً؛ كانت العلمانية بدورها تكمّل على نحو سري البرنامج الديني. (انظر: كتاب العلمانية وصناعة الدين، تحرير ماركوس درسلر وأرفيند مانداير، طبعة الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017م، ص 13)، وقد أظهرت بعض الأحداث الماضية سقوط أقنعة بعض السياسيين الغربيين ليظهر خلفها قساوسة متعصبون، (نتائج الانتخابات في ألمانيا وفرنسا العام الماضي، الموقف من أزمة المهاجرين السوريين، العناد في قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، الحجاب... وغيرها من أمثلة)، هذا السقوط لا يعني انهياراً أخلاقياً بقدر ما يُظهر الحقيقة بوضوح، ويفسّر المواقف بشكل جلي، ويعطي شكلاً آخر من التناغم العلماني مع الديني. وأظن أن تشارلز تايلور الفيلسوف الكندي تحدث بوضوح عن هذا النمط التعايشي بين الديني والعلماني في كتابه المثير للجدل «العصر العلماني»، كما سبقه الفيلسوف الألماني هابرماس بأهمية توطين الدين (المعقلن) ليكون فاعلاً في المجال العام من دون سيطرة لاهوتية، وذلك في مداخلته التي نشرت في كتاب «قوة الدين في المجال العام». في المقابل، هناك أطروحة جزئية نسف فيها الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن أي علاقة مصلحية وتعايشية ممكن أن تثمر بين السياسي والديني بعيداً من البُعد الائتماني التزكوي في كتابه «روح الدين». هذه الأطروحات على رغم عمقها التفسيري للعلاقة الجدلية بين الديني والعلماني؛ إلا أن تطورات الواقع المتغير والمشهد الديني والسياسي في العالم بمعطياته التواصلية والتقنية قد تسبق هذه الأطروحات نحو جديد؛ الله أعلم بشكله القادم! ثانياً: يثور تساؤل في منطقتنا العربية من حين الى آخر؛ عن جدوى الاهتمام بالخلافات الفلسفية والجدل الفكري الذي يحصل في الغرب (أميركا و أوروبا)، ومن ذلك النقاش المثير حول علاقة الديني بالسياسي، فما يعنيهم قد لا يعنينا ومشكلاتهم تختلف جوهراً وشكلاً عن مشكلاتنا، وهذا التساؤل مع جديّته، يحتاج إلى توضيح أمرين: أحدهما أن الغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر لم يعد تلك القارة الجغرافية المنكفئة على نفسها؛ بل أصبح بشكل مذهل وبنجاح باهر؛ مركز العالم وما عداه هوامش، وأصبح أيضاً الفاعل المهيمن وما عداه مجرد أدواتٍ تنفّذ؛ أشبه بما يقوم به اللاعبون أمام رقعة الشطرنج، هذه السيطرة لا أقصد بها انتصارات الغرب الاستعمارية وهيمنته على المال والأسواق فحسب؛ بل قصدت ما هو أبعد من ذلك، وهو القدرة على إعادة صناعة الأفكار والمعارف وحتى الدين!، تحققت هذه المرجعية الغربية للعالم من خلال عوامل كثيرة، أهمها من وجهة نظري؛ ما حصل من تفوق فكري قام بالمزاوجة بين مكونات أفرزتها التطورات السياسية والدينية في أوروبا والمتمثلة في المسيحية كدين، والحداثة كنهضة صناعية وعلمية، وقومية متعالية ومتوارثة من زمن الرومان، فانصبت أهم المشاريع الفكرية بدءًا بكانط وهيوم وهيغل، ثم ماكس فيبر، بإيجاد أنموذج معرفي لا يزيح الدين ولا يبتذل العقل، ويحقق طموح السياسيين في التوسع بعدما ظهر عصر الكشوفات الجغرافية، فلو أخذنا على سبيل المثل إسهامات هيغل في محاضراته وكتبه التي قامت بمزج المسيحية والحداثة والقومية بشكل ساعد في خلق منهجية فكرية فلسفية حققت بعد ذلك أنموذج أوروبا للتفوق، جاءت هذه الفلسفة ضمن السياق النقدي للتاريخ، ومن خلال مقارنة المسيحية بالأديان والثقافات الشرقية الأخرى التي تفتقد–بزعمه- للتاريخ، مع محاولة إضفاء معايير معرفية تثبت التفوق المسيحي بين تلك الأديان، كما ظهرت ميزات أخرى لأطروحات هيغل في صياغة نظرية عقلانية دينية تثبت وجود الله وتدمج الدين في الحياة وفق رؤية كونية مقارنة، استكمل مراحلها الأخرى عدد من المستشرقين والمفكرين والمترجمين الذين أدخلوا الثقافات الأخرى المنعدمة وجودياً في الثقافة الغربية، وجعلوا منها درساً قائماً وموجوداً، ولكنه حضور ناقص لا تتعزز جدواه إلا من خلال علاقة بذاك الأوروبي المتفوق برهاناً وحداثة، فتنامت العلمانية الغربية وانتشرت عالمياً عندما أصبحت معياراً للمقارنة بينها وبين ديانات وثقافات أخرى. يفسّر هايدغر هذه الحالة المتفوقة للغرب في مقالته» عصر تصورات العالم» عندما أشار إلى أن هذا الشكل الحديث المميز من التفكير أدى تدريجياً إلى ولادة الغرب باعتباره نظاماً فكرياً ذا مرجعية ذاتية، ومن ثمّ يعمم على الكون موقفه وخطابه ويدّعي أن له معرفة موضوعية بالمجتمعات والثقافات البشرية على غرار العلوم الطبيعية. (انظر: النقل من كتاب العلمانية وصناعة الدين ص18 وما بعدها)، ومن هنا نفهم السبب الذي جعل العالم يعتمد على الغرب في مقارناته معرفياً وقيمياً، صحةً وخطأ، ويشعر باحتياجه وتقازمه الدائم تجاه هذا الأنموذج المتعالي، والفكر الغربي لا يظهر أنه مستفزٌ بشكل علني لغيره من الثقافات والمجتمعات؛ بقدر ما لديه الإغراء اللازم للركض خلفه، فتجدده وقيامه بالتطوير والإصلاح وتقديم الحلول ومعالجة المشكلات المتنوعة تمنحه هذه المركزية الطوعية، ولو احتاج الى تثبيت هذا التفوق بالتصنّع والتزييف فعل ذلك من دون أدنى تردد. ثالثاً: بناء على ما سبق؛ فإن المخيال الغربي الذي تنامت هيمنته منذ قرون واعتاد على هذا التفوق المعنوي والمادي، ماذا سيفعل وهو عرّاب العلمانية أمام نزعة العالم نحو الدين؛ خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، وما هي خططه الجديدة لإبقاء هذا التفوق؟ هذا الفعل المتوقع من الغرب لحلّ هذا الإشكال؛ هو الذي أنتج سيلاً من الدراسات والأطروحات التي تتناول الموقف الغربي العلماني من الدين، وأوجد أطروحة أخرى مثيرة للنقاش؛ تقتضي تمييع صلابة الدين إلى ما بعد الدين، وتمييع مفاهيم العلمانية إلى ما بعد العلمانية، وذلك من خلال «صناعة الدين» وعدم انتظار المجتمعات لتختار عودتها للدين كيفما تشاء. هذا الخيار الخطير ليس صعباً على مؤسسات متنفذة؛ أكاديمية وإعلامية متمرسة جداً للقيام بذلك، ولكن تكمن الخطورة في التأخر عن إيجاد البدائل المناسبة لاحتياجات المجتمعات، ما يسمح بخروج بدائل فاتنة ومريعة في آنٍ واحد، مثل حالات التطرف التي خرجت مع القاعدة بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001م، وتنامي الإسلام السياسي بعد الربيع العربي 2011م، والحل الذي غالباً ما نرى بواعثه ومقدماته في عالمنا العربي هو صناعة دين يحقق الحاجات الروحانية ويحافظ على المتطلبات العلمانية. يضع الباحثان درسلر ومانداير تصوراً حول أهم المستويات أو الخطابات التي تسعى الى بناء صناعة للدين، تحقق هذا التزاوج بين ما بعد الدين وما بعد العلمانية، من خلال التصورات التالية: أولاً: صناعة الدين من أعلى، أي بوصفها استراتيجية من موقع السلطة، بحيث تحدد السلطة نمط التدين، وما يقبل ويُرد من رمزيات وخطابات وممارسات تمثل الدين، مع سيطرة على نوع الخطاب الديني الإعلامي الذي يوجّه للجمهور، وغالباً ما يُحمى هذا النمط الديني الجديد بأنظمة وتشريعات تضمن له البقاء بقوة القانون والسلطة. ثانياً: صناعة الدين من أسفل، وذلك بإيجاد مؤسسات مجتمعية أو خطابات فردية غير مؤطرة على السلطة، بتقديم خطاب تديني يعيد تشكيل هوية الدين في ضمن قوالب علمانية مختارة. وحاول عدد من الدراسات تهميش فكرة الدولة المتدينة بوصفها بالمستحيلة والتي يتكئ على دعواها الإسلام السياسي (كتاب وائل حلاق «الدولة المستحيلة» على سبيل المثل؛ مع أنه هدم فكرة الدولة بنموذجها التاريخي وتطبيقاته الواقعية من دون إغلاق الباب للبديل)، كما برزت أفكار التسامح التي تحذر من عودة الحروب الدينية وترى أن خيار البقاء في ظل السلم المدني يكمن في اختيار العلمانية ضرورة للأمن والاستقرار. ثالثاً: صناعة الدين من الخارج، وقد تظهر في أشكال متعددة، كالدراسات العلمية المترجمة، التي ساهم بعضها وبشكل كبير منذ أكثر من قرن في صياغة ديانات معلمنة كثيرة، في بعضها تجني أكاديمي مقصود ومسيّس، ودراسة راند في 2003م حول الإسلام المعتدل أنموذج لهذه الصناعة، ما حمل أحد عرّابي هذا التوجه وهو دانيال بايبس على القول بأن: «هذه المرحلة الرهيبة من تاريخ المسلمين ستنتهي فقط عندما يتحولون إلى العلمانية»، متناسين الأسباب الكثيرة التي انتجت تطرف ما بعد 11 سبتمبر و «داعش» وغيرهما، وغالباً ما تكون هذه الصناعة الخارجية للدين متوافقة مع أرباب صناعة الدين من أعلى. (انظر: العلمانية وصناعة الدين، ص 40-47) هذه الفكرة الصناعية للدين توافرت لها اليوم أسباب أخرى فاعلة؛ لا تنتجها من العدم؛ لكنها تقوم بذكاء عظيم في نشرها ودعمها بشكل ذاتي، من خلال ثورة الشبكية وتحطم الحدود والحوارات المرنة في مواقع التواصل الاجتماعي بالذات. ختاماً، لن أفعل كما اعتدت في نهاية مقالاتي بوضع الفكرة والخلاصة لنتيجة ما سبق عرضه من أفكار؛ بل سيبقى المقال مفتوحاً وأفكاره غير منتهية أمام هذه الظاهرة العالمية حيث يقوم الغرب العلماني بصناعة أديان جديدة، تلبي احتياجاته التوسعية أولاً، وتفصّل مقاسات مناسبة لما يجب أن يرتديه العالم من أثواب؛ على رغم حرصه على أن نبقى أمامه عُراة!