ولكن هل ستتبنى المحكمة الدستورية هذه الوجهة وتنظر إلى هذه النصوص بوصفها صدرت فى ظل حالة ثورية ولا تفصلها عن الواقع السياسى التى صدرت فيه؟ وهل المحكمة بظروفها الحالية لديها القدرة على سلوك هذا المسلك؟ إن المحكمة الدستورية كى تتبنى هذه الوجهة عليها أن تحلق فى فضاء رحب من المبادئ الدستورية العامة كمبادئ العدالة والحفاظ على قيم المجتمع وهويته، والتى يمكن أن تؤسس عليها قضاءها وألا تقيد نفسها بحرفية النصوص وأن تتعداها إلى النظر فى ظروف المجتمع وإلى الغاية من التشريع، فالدستور ما هو إلا انعكاس لظروف المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو كذلك يجب أن يكون، وإلا فما فائدة دستور يتنافر مع واقع مجتمعه. والحق أيضًا أن المحكمة الدستورية تبنت هذا المسلك - وهو عدم التقيد بحرفية النصوص والنظر إلى ظروف المجتمع ومتغيراته - فى العشرات من أحكامها رغم كون هذه الأحكام صدرت فى ظل شرعية دستورية لا شرعية ثورية. ففى العديد من أحكام المحكمة الدستورية حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية نصوص عديدة بالرغم من أنها لو تقيدت حرفيًا بنصوص الدستور لحكمت بدستوريتها، ولكن المحكمة لم تقيدها النصوص ونظرت لواقع المجتمع ومتغيراته وغاية المشرع من وضع النص التشريعى، ومن هذه الأحكام على سبيل المثال لا الحصر أحكامها الخاصة بالخصخصة بالرغم من أن الدستور كما ينص فى مقدمته وفى العديد من نصوصه - حتى إجراء التعديلات الدستورية فى 2007 - على أن نظام الدولة الاقتصادى نظام اشتراكى وهو ما يتناقض تمامًا مع فكرة الخصخصة، بيد أن المحكمة نظرت إلى الضرورات العملية فى واقع المجتمع وارتأت أن الالتزام بالنظام الاشتراكى فيه إضرار باقتصاد الدولة ولم تقيد نفسها بحرفية تلك النصوص وأعملت فكرها فى إيجاد متكئ لها فى المبادئ الدستورية العامة والتى يمكن اتساقها فى ذات الوقت مع روح الدستور وظروف المجتمع. ومن هذه الأحكام أيضًا حكم المحكمة الدستورية الشهير عام 2000 والخاص بالإشراف القضائى على الانتخابات، فالمحكمة حكمت بعدم دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية مع أن النص الدستورى كان يقبل من التفسير ما يجعلها تقضى بدستوريته ولكن المحكمة لم تنفصل عن واقع المجتمع وعن التزوير الذى كان يزيف إرادة الشعب، فتبنت تفسيرًا مُغايرًا وصلت به إلى مرادها من ربط الدستور بالواقع وبحثت فى علة التشريع لا فى حرفية نصوصه، فحكمت بعدم دستورية النص، وغير ذلك من عشرات الأحكام التى تبنت فيها المحكمة الدستورية هذه الوجهة، وأكدت حقًا أن الرقابة الدستورية رقابة من نوع خاص تجمع بين الدستور والسياسة فى بوتقة واحدة، بل إن هذا المنهج الذى تبنته المحكمة – وفى ظل ظروف عادية لا ثورية - جعل بعض الفقه الدستورى يقول إن المحكمة الدستورية بهذا المسلك تخطت منطقة الرقابة إلى منطقة الإنشاء والتشريع. ومن الجدير ذكره هنا أنه مما ساعد المحكمة الدستورية فى تبنى ذلك المسلك وجود بعض القضاة الأفذاذ على رأسها، والذين حلقوا بها فى هذا الفضاء الرحب وأرسوا مبادئ وأسسًا خلاقة للرقابة على الدستورية تتسم بالانفتاح والجرأة وعدم التقيد الحرفى بالنصوص والنظر إلى واقع النص المراد تطبيقه فيه، ويأتى فى مقدمة هؤلاء العظام المستشار الدكتور عوض المر والمستشار الدكتور محمد ولى الدين جلال رحمهما الله، ومن ثم فإن المحكمة الدستورية لكى تتبنى هذا التأسيس الذى تبنته اللجنة التشريعية لهذه التعديلات، وهو الأساس الثورى أو الاستثنائى، فإنها تحتاج إلى التحرر من حرفية النصوص، والبحث عن أساس آخر تستند إليه يمكن أن تجده فى رحابة المبادئ الدستورية العامة ومقدمات الدساتير ومن خلال رحابة الفكرة الدستورية التى تقوم على الربط بين النصوص والواقع، ليس ذلك وفقط، ولكنها تحتاج أيضًا إلى جرأة أمثال هذين العلمين الكبيرين رحمهما الله فهل تفعلها المحكمة الدستورية وتؤسس حكمها – عند عرض الأمر عليها – على الشرعية الثورية لا الدستورية؟!