(1) تعنى كتابات د. جمال سلطان كثيرًا – وقد صحبتها طويلًا – بإصلاح بوصلة التيار الإسلامي من كافة الأطياف التي تعلن الانتساب إليه، وتقويم مسارها حينما يرى فيه عوجًا، ويبذل في ذلك من الجهد ويبدي فيه من العزم ما قد يراه البعض مغادرًا للتوازن في النقد بين التيارات السياسية المختلفة، لكن السبب واضح، فمن الطبيعي أن يسعى المفكر لتقويم وضبط بوصلة التيار الذي يميل فكريًا إليه أكثر من سواه، عملًا بالمقولة الشهيرة (هلا ذهبت إلى أهل بيتك فقومت أمرهم أولًا).
(2) في هذا الإطار كانت عدة مقالات في الفترة الماضية تحتوى على قراءات د. جمال في بعض شأن هذا التيار، توفقت منها عند مقالتين هامتين، وأحببت أن أقدم فيهما قراءة لبعض نقاطهما.
(3) كانت المقالة الأولى بتاريخ 11 يوليو تحت عنوان (عن اجتماع نادر بكار بتسيبي ليفني ؟!)، يستنكر فيها – وأنا معه تمامًا في هذا – أن يسارع بعض المنتسبين للتيار الإسلامي تحت تأثير الخصومة لتلقف أخبار عن الخصوم السياسيين من المواقع المعروف ضعف مصداقيتها ثم يتخذونها منصات للهجوم، ووجه استنكاره بعد هذه الطريقة عن الخلق الإسلامي اولًا وعن العقل أيضًا إذ أنها تقيم الحجة على صاحبها فيما لو أوردت تلك المصادر لاحقًا أخبارًا ملفقة بحقه هو، وكثيرًا ما فعلت وتفعل.
(4) ثم استوقفتني عدة جزئيات كالتالي، يقول الكاتب: " الأهم هو الالتفات إلى دلالة الحدث نفسه، وهو قدرة أبناء التيار السلفي على استيعاب الفكر السياسي الحديث والتعايش معه "، فهل بدأ البرهان على قدرة التيار السلفي على استيعاب الفكر السياسي الحديث والتعايش معه من الشهادة التي حصل عليها الأستاذ نادر بكار ؟!، أما من عشرات البراهين طوال السنوات الماضية على ذلك ؟!.
(5) لكن الفقرة التي استوقفتني طويلًا هي التالية " وهذا كله لا يمنع انتقادنا لحزب النور وبعض اختياراته ، وأنا شخصيا أنتقد الحزب في كثير من المواقف خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، وأعتقد أنه كان بإمكانه أن يكون أكثر تماسكا وإيجابية ونبلًا في كثير من المواقف والأحداث، حتى وهو يختار الانحياز إلى السلطة الجديدة، ولكني مدرك أن ضعف الخبرة السياسية وحداثة التجربة الحزبية للتيار السلفي المصري كان سببا في هذا الارتباك والتخبط وسوء الأداء " ففي تلك الفقرة نقطتان استأذن د. جمال أن يراجعهما: 1- هل أخطاء حزب النور بعد وضعها إلى جوار بعضها تندرج تحت بند (الارتباك والتخبط وسوء الأداء) ؟!، وهل حقًا يمكن عزوها إلى (ضعف الخبرة السياسية وحداثة التجربة الحزبية) ؟. 2- هل حزب النور يعتبر الآن، أو حتى منذ الربع الثاني من عام 2013 معبرًا عن التيار السلفي حتى نتحدث عن أخطائه باعتبارها أخطاء (التيار السلفي المصري) ؟!، سأجيب عن تلك النقطة من واقع مشاهداتي ومعلوماتي دون أن أصادر حق الآخرين في استقراءات أخرى من مشاهداتهم ومعلوماتهم، الإجابة هي: اللهم لا، حزب النور الآن بل منذ الربع الثاني من عام 2013 لا تزيده الأيام ألا خفوتًا وخسرانًا لقواعده وانصرافًا للغالبية العظمى من أبناء التيار السلفي عنه، فلقد جرت مياه كثيرة في النهر منذ انتخابات ديسمبر 2011 حين حقق نتائج جيدة، لكن بعد قصور في الأداء في مجلس الشعب ثم انشقاقات ضربته وخروج رئيسه مكونًا حزبًا جديدًا، ثم إدائه في الربع الأخير من رئاسة الرئيس محمد مرسي وخياراته السياسية التي تبتعد يومًا وراء يوم عن خيارات قواعده السلفية، يمكنني أن أقول باطمئنان أن الحزب لم يعد ممثلًا إلا لأعضائه وقطاع غير واسع من القواعد الجماهيرية السلفية والمتعاطفين معها التي كانت له عام 2011، ورغم أنني لا اعتبر أي انتخابات الآن مقياسًا على الإطلاق لأي شيء، لكنني فقط اذكر بانتخابات 2015 والنتائج التي انتهى إليها، لذا أظن أنه لابد من التدقيق حين نتحدث عن حزب النور أن نموذجه خاصة الآن لا يمكن أن يكون معبرًا عن التيار السلفي سياسيًا ولا فكريًا.
(6) المقالة الأخرى الهامة هي التي ناقش فيها د. جمال الإنقلاب التركي، وكانت بعنوان (مرسي وأردغان، مصر وتركيا، هل المقارنة صحيحة)، بتاريخ 17/7/2016، وزع فيها الكاتب تقييماته للحدث على محاور عدة، وشملت مقارنات بين الحكم في تركيا وحكم الرئيس مرسي، وبين المعارضة التركية والمعارضة المصرية آنذاك، وتسوقفتني فيه ايضًا عدة نقاط أود مناقشتها.
(7) ترى قراءة د. جمال أن من دروس الإنقلاب التركي والتصدي له " هو أهمية إدراك أن الديمقراطية هي توافق وطني شامل على مبادئ وقواعد يحترمها الجميع، وتحترمها السلطة أو الحزب الحاكم قبل الآخرين، حتى من قبل تدوينها في دستور وأوراق، فالديمقراطية ليست مجرد أرقام تخرج من صندوق الانتخاب تتيح لك فعل ما يحلو لك، وإنما تتيح لك سلطة قيادة الخلاف الوطني بما يحقق مصالح البلاد، واحترام هذا الخلاف وقواه المعبرة عنه، والبعد عن كل ما يمثل تهديدا للتوافق الوطني، فهذا ما يحقق سلاما داخليا في المجتمع والدولة يمنع الشقوق ويقطع الطريق على أي مغامرة تستغل تلك الشقوق، كما يتوجب على قيادة الدولة أن تمارس صلاحياتها باعتبارها قيادة للجميع ومسئولة عن الجميع، المواطن المعارض قبل المواطن المؤيد، وهذا ما جعل القوى الشعبية والسياسية المعارضة لأردوغان بما فيه ذلك قطاع واسع من الأكراد يتضامون معه وينزلون للشوارع لمنع نجاح الانقلاب " وليسمح لي د. جمال أن أختلف معه في قراءته من وجهي العملة، فلا أردوجان – خاصة في الفترة الأخيرة – حصل أو حتى سعى لهذا التوافق، ولا مرسي تنكر له بما يشابه تلك العبارات التي استخدمها الكاتب، فأما عن اردوجان فإن سعيه الواضح لتكرسي سلطاته – بغض النظر عن أية نوايا الطيبة أو أهداف خيرة قد تكون من وراء ذلك - قد صرف عنه أكبر اثنان من المقربين إليه وهما على التتابع عبد الله جول ثم داود أوغلو، فكيف بمعارضيه ؟، الذين ينعتونه ليل نهار بالخروج عن الأطر الديموقراطية، خاصة الأكراد، فإذًا كان موقف المعارضة التركي من رفض الإنقلاب ليس مبنيًا في شيء منه على الإطلاق على أي نجاحات لأردوجان لكن مبني عن فهم واضح لخطورة سقوط النموذج الديموقراطي، وأن أردوجان - على عُجَرِه وبُجَرِه من وجهة نظرهم وفشله في ايجاد التوافق، وليس على نجاحاته وقدرته على التوافق – هو أهون شرًا بكثير من النظام العسكري الذي بدلًا من تحجيمهم كما فعل أردوجان فإن العسكر سيطيحون بهم نهائيًا. هذا الفهم الثاقب السديد للمعارضة التركية افتقدته تمامًا المعارضة المصرية التي أعماها الحسد والحقد على ما في يد خصومها السياسيين، ورغبتهم في زوال الحكم منهم ولو ذهب إلى العسكر مع علمهم بوبال سلعتهم، هذا هو الفارق الحقيقي في المشهد، وإلا فإن أردوجان هو آخر من يوصف بالنجاح في عمل توافقات مع المعارضة، لكن المعارضة نجحت في الإختبار رغم أردوجان وليس بفضله !، النظام الديموقراطي نجح هناك بينما مزقوا جسده الطري بالحراب هنا (كما استعارة لتشبيه نزار قباني للوحدة المصرية السورية الموؤدة). وأما وجه الاختلاف الآخر فهل تعامل د. مرسي مع فوزه بإعتباره (أرقام تخرج من صندوق الانتخاب تتيح له فعل ما يحلو له) ؟!، أُذَّكِر أنه طالما عرض على معارضيه (حمدين صباحي والبرادعي) المشاركة حتى منصب رئيس الجمهورية وتعززوا عليه !!، وعرض مناصب وزارية على معارضين كثر ورفضوا (وهو ما لم يفعل أردوجان مثله ولا مقارب له)، فهل هذا يتطابق مع ما وُصف به ؟، ولقد قابل في القصر الجمهوري أطياف المعارضين من السياسيين حتى الفنانين، بينما لم يقابل مثلًا الأستاذ حازم أبو إسماعيل وهو سياسي ينتمي لتياره السياسي، فهل هذا يتطابق مع ما وُصف به ؟، وجلس في جلسات الحوار يسمعهم يزايدون عليه وينصرفوا، فهل هذا يتطابق مع ما وُصف به ؟.
(8) ويذكر د. جمال ما يلي " أنه يستحيل أن تشارك ديمقراطيًا وأنت تدير تنظيمات سرية أو حتى علنية خارج إطار القانون والبناء الدستوري للدولة، وهذه المعضلة تشمل الإخوان في مصر كما تشمل حركة الخدمة التي يقودها فتح الله جولان في تركيا، ففكرة التغلغل في أجهزة الدولة ومؤسساتها ومرافقها الحيوية من خلال تنظيم أو حركة غير قانونية خطير للغاية ويمثل تهديدا حقيقيا للديمقراطية وشفافيتها وحتى جدواها ". وأتفق مع د. جمال من ناحية المبدأ، ولكن من ناحية التطبيق فإن الأمور لا تتم بضغطة زر !، فإن الحركات السياسية والفكرية لا تقيم بمدى تواجدها في (إطار القانون والبناء الدستوري للدولة)، وإلا فعلينا أدانة معظم المفكرين والساسة منشئي الحركات الكبرى عبر التاريخ، فمعظمهم بطبيعة الأمر كان – جزئيًا أو كليًا – خارج إطار القانون والبناء الدستوري للأنظمة التي تريد تكريس أوضاع معينة، وإلا فعلينا هنا أن ندين ثورة يناير بالكامل، فكل ما فيها كان (خارج إطار القانون والبناء الدستوري للدولة)، ومن قبلها أن ندين ثورة 23 يوليو، إذ هل كان تنظيم الضباط الأحرار في (إطار القانون والبناء الدستوري للدولة) ؟!، وعلينا أن نذكر أن كل ما حدث في تمرد يونيو 2013 وما تلاه كان خارج (إطار القانون والبناء الدستوري للدولة)، وإلا فهل يجيز (إطار القانون والبناء الدستوري للدولة) عزل الرئيس مرسي أو تفويض 26 يوليو ؟. ولا تلام حركة فكرية حظرت من قبل خصومها أن تعمل تحت الأرض، وأما بعد ثورة يناير وغياب الداعي للسرية فكان يجب أن تتم خطوات لإنهاء تلك السرية، وقد حدثت بالفعل عدة خطوات لا يجب تجاهلها، فإفتتاح مقر علني للجماعة، وظهورها المباشر، والفصل - ولو هيكليًا – بين الجماعة والحزب، كلها كانت خطوات على الطريق، ولا يتصور أن تعلن الجماعة فجأة حل نفسها أو تنماع كما ينماع الملح في الماء، هذا غير متصور لا عقليًا ولا سياسيًا ولا يقع في اطار الممكن فعليًا.
(9) ويذكر د. جمال أيضًا ما يلي " أيضًا، تعلمنا التجربة التركية، أن بناء ديمقراطية راسخة في البلاد هو طريق يحتاج إلى صبر وجهد وتضحيات وتنازلات ومران طويل، يسمح بتحول الديمقراطية إلى ثقافة مواطن وثقافة مؤسسات أيضا، كما يعطي الإحساس بالثقة عند الجميع بأن هذا الطريق هو الوحيد للوصول إلى السلطة وتقديم خبرتك في قيادة الوطن لمرحلة زمنية، والمسئولية تلزم الجميع في تأكيد الإحساس العالي تجاه ترسيخ تلك الثقة، وأن صعودك على رأس السلطة ليس اختطافا أو صعودا أبديا، وإنما هو اختيار مرحلي قد تضطر لإخلاء موقعك فيه في أي لحظة لمنافسك أو معارضك فردا أو حزبا، والاحتكام دائما للشعب، ليس فقط عند انتهاء فترة ولايتك الدستورية، بل وحتى عندما تستشعر أن البلاد في حال من الخطر أو القلق وأن مخرجات الصندوق لم تحقق سلاما اجتماعيا، فيتم الدعوة لانتخابات مبكرة كما يحدث في أي ديمقراطية جادة، فخطير جدا أن ترسخ فكرة أنك امتلكت السلطة ولن تتنازل عنها أبدا " . ومرة أخرى أتفق من د. جمال تمامًا في المبدأ وأختلف في اسقاطه على الحالة المصرية، فأولًا لم تظهر على الرئيس محمد مرسي في أي لحظة (أعراض) أن (صعوده سيكون صعودا أبديًا)، وأنه أو حزبه (امتلك السلطة ولن تتنازل عنها أبدا)، ولا مرة !، ومن نازع في هذا فعليه بالدليل !، بل إن مؤيديه في قمة التحدي السياسي والإستقطاب قبيل 30 يونيو كانت هتافاتهم أنهم مصرون أن يستكمل د. مرسي (الثمان سنوات)، أي أنه سيكمل مدته وسينجح مرة أخرى، فحتى في غمرة التحدي وانفلات الأعصاب لم يبدو منه أبدًا فكرة البقاء الأبدي. هذه واحدة، وأما الأخرى فعلينا أن نفرق جيدًا بين ما هو مقبول في حالة انخفاض الشعبية الطبيعي حين يجب على السياسي – فقط اذا سمح نظامه الديموقراطي – بطلب انتخابات مبكرة، حيث لم يحدث هذا مثلًا ابدًا في الرئاسة في أمريكا أو فرنسا ولم يدع أحد لهذا هناك، ومنذ جاء أولاند على سبيل المثال لا اذكر أن شعبيته تعدت 25% ومع ذلك ها هو يقترب من إكمال مدته، لأنه معلوم أن الأنظمة الديموقراطية لديها وسائلها لتقويم انخفاض الشعبية وموازنته بالإنتخابات في المؤسسات الديموقراطية الأخرى وعلى رأسها مجلس النواب – وكنا على وشك اجراء انتخاباته – هناك فارق بين هذه الحالة بين حالة (الإنقلاب الأبيض) حين تتآمر القوى السياسية وقوى الدولة العميقة على اسقاط الرئيس المنتخب – وأظن اعترافات تلك الأطراف تغنينا الآن عن أي جدل بخصوص تلك الحقيقة – ففي حالة الإنقلاب الأبيض أما على الرئيس أن يتمسك بشرعيته إلى آخر مدى كما فعل د. مرسي، أو أن يتوائم ويفوت الفرصة كما فعلت حركة النهضة في تونس، وفي الحالتين نحن لا نتكلم نهائيًا عن الحالة التي يطرحها د. جمال وهي حالة أن (القلق وأن مخرجات الصندوق لم تحقق سلاما اجتماعيا، فيتم الدعوة لانتخابات مبكرة كما يحدث في أي ديمقراطية جادة)، مرة أخرى أقول: نحن نتكلم عن حالة مختلفة تمامًا وهي حالة انقلاب أبيض للتخلص من الرئيس المنتخب وتجاوز الاحتكام للصندوق في حالة طبيعية، وكلنا يعلم كم الأزمات التي افتعلت في الشهر الأخير، وبغض النظر هل كان يجب التعامل معها كما تعامل د. مرسي – وأميل الآن إلى ما ذهب إليه عكس موقفي وقتها، وبعدما تبين ما تبين – أو أن يتم التعامل معها كما فعلت حركة النهضة، ففي الحالتين نحن نتكلم عن حالة مختلفة عن التي عالجها د. جما في الفقرة الأخيرة.
(10) وتبقى تلك المقالات دومًا هامة لإثراء النقاش حول تعديل البوصلة وتقويم المسار للمنتسبين للتيار الإسلامي، فلا يمكن أن نتقدم من النقطة التي نحن فيها إلا بالنقاش المحترم البناء، دون مصادرة ودون تشكيك، وبأقصى قدر ممكن من رحابة الصدر والتدبر....
م/يحيى حسن عمر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.