في أعقاب الانقلاب الفاشل في تركيا نشطت ، كما هو متوقع ، عمليات مقارنة متعجلة للوضع في تركيا والوضع في مصر ، وتحديدا بين ما وقع في 3 يوليو 2013 وبين ما وقع في 16 يوليو 2016 ، وغلب على تلك المقارنات العواطف السياسية المنحازة ، حسب هوية من يجري المقارنة ، والحقيقة أنها كلها تقريبا مقارنات غير علمية وغير عادلة ، وغير دقيقة في القياس ، نظرا لاختلاف واضح في السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والمؤسسية بين الحالتين ، والمؤثرات الجوهرية التي دفعت كل طرف إلى السلوك الذي اتخذه ، فأردوغان لم يكن مرسي ، وحزب العدالة والتنمية لم يكن هو جماعة الإخوان وذراعها السياسي الحرية والعدالة ، وتوجهات الاحتشاد الشعبي المتحرك في الشارع كان مختلف في تلك اللحظات من هنا وهناك ، وتراكم الخبرة السياسية في تركيا مع بنية ديمقراطية حقيقية رغم تدخلات الجيش بقطعها دائما عبر الانقلابات تختلف عن الخبرة المصرية التي لا تعرف إلا ديكورات شكلية تشرف عليها الأجهزة الأمنية منذ انقلاب الجيش في يوليو 1952 ، كما أن عنفوان وعافية المجتمع المدني في تركيا واستقلاليته المالية والإدارية تختلف كليا عن خلايا ومنظمات المجتمع المدني الهشة والضعيفة وغير المستقلة ماليا وإداريا التي توجد في مصر ، أيضا البنية الحزبية في تركيا وعمقها التاريخي تختلف عن البناء الحزبي الهش في مصر والذي يعتمد في معظمه على رعاية السلطة وأجهزتها الأمنية لاستكمال ديكور ديمقراطي ، ولا تملك حضورا حقيقيا أو تأثيرا في الحكومة أو البرلمان ، كذلك لا يمكن مقارنة تجربة شخصية مثل رجب طيب أردوغان وحزبه بما حققه من إنجازات ضخمة على المستوى التنموي والاقتصادي والعسكري والتعليمي والصحي طوال قرابة خمسة عشر عاما ، وهو الذي جعل من تركيا واحدة من أهم قوى العالم الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، ونقل حياة المواطن التركي نقلة هائلة في الرعاية الصحية والتعليمية والبنية الأساسية وفرص العمل وحقق له متوسط دخل بأكثر من مائة ضعف عما كان عليه سابقا ، مع تجربة صغيرة وعاصفة مع مرسي لم تثمر أو لم يتح لها أن تثمر أي منجز حقيقي ، لا اقتصادي ولا تنموي ولا عسكري ولا تعليمي ولا غيره يمكن أن يشعر به المواطن العادي ويدعوه للقتال دونه . الخلافات كثيرة بين السياقين ، ويمكن أن نستغرق وقتا طويلا لحصرها ، وربما كان من المهم حصرها بالفعل ودراستها بشكل عقلاني ومنصف وجاد ، للاستفادة من معطيات نتائج المقارنة في ضبط بوصلة أي إصلاح سياسي مصري في المستقبل ، لكن الذي يمكن استخلاصه بشكل عاجل من الليلة العاصفة التي مرت بها تركيا وانتهت إلى فشل الانقلاب العسكري الأخير ، هي فكرة الفصل بين الخلاف السياسي أو الفكري مع أشخاص أو قادة والخلاف حول المبادئ السياسية ، فالذين اختلفوا مع أردوغان من الأحزاب والشخصيات كانوا من أول من اصطف معه في وجه الانقلاب ورفضوا القبول بحكم عسكري ، ليس حبا في أردوغان قطعا ، ولكن حبا في وطنهم والتزاما بمبادئ ترسخت في التمسك بالتدافع الديمقراطي عبر أطر دستورية وصناديق الانتخاب ، واعترافا بأن أي حكم مدني مهما بلغ به السوء هو أفضل من الحكم العسكري ، والتجربة المريرة التي عرفتها تركيا خلال ستين عاما وتركت تركيا خرابا وتخلفا وبؤسا كانت كافية لجلاء هذا المعنى . الدرس الآخر ، وهو أهمية إدراك أن الديمقراطية هي توافق وطني شامل على مبادئ وقواعد يحترمها الجميع ، وتحترمها السلطة أو الحزب الحاكم قبل الآخرين ، حتى من قبل تدوينها في دستور وأوراق ، فالديمقراطية ليست مجرد أرقام تخرج من صندوق الانتخاب تتيح لك فعل ما يحلو لك ، وإنما تتيح لك سلطة قيادة الخلاف الوطني بما يحقق مصالح البلاد ، واحترام هذا الخلاف وقواه المعبرة عنه ، والبعد عن كل ما يمثل تهديدا للتوافق الوطني ، فهذا ما يحقق سلاما داخليا في المجتمع والدولة يمنع الشقوق ويقطع الطريق على أي مغامرة تستغل تلك الشقوق ، كما يتوجب على قيادة الدولة أن تمارس صلاحياتها باعتبارها قيادة للجميع ومسئولة عن الجميع ، المواطن المعارض قبل المواطن المؤيد ، وهذا ما جعل القوى الشعبية والسياسية المعارضة لأردوغان بما فيه ذلك قطاع واسع من الأكراد يتضامون معه وينزلون للشوارع لمنع نجاح الانقلاب ، وفيما يخص الحركات الإسلامية تحديدا ينبغي إدراك أنه يستحيل أن تشارك ديمقراطيا وأنت تدير تنظيمات سرية أو حتى علنية خارج إطار القانون والبناء الدستوري للدولة ، وهذه المعضلة تشمل الإخوان في مصر كما تشمل حركة الخدمة التي يقودها فتح الله جولان في تركيا ، ففكرة التغلغل في أجهزة الدولة ومؤسساتها ومرافقها الحيوية من خلال تنظيم أو حركة غير قانونية خطير للغاية ويمثل تهديدا حقيقيا للديمقراطية وشفافيتها وحتى جدواها . أيضا ، تعلمنا التجربة التركية ، أن بناء ديمقراطية راسخة في البلاد ، هو طريق يحتاج إلى صبر وجهد وتضحيات وتنازلات ومران طويل ، يسمح بتحول الديمقراطية إلى ثقافة مواطن وثقافة مؤسسات أيضا ، كما يعطي الإحساس بالثقة عند الجميع بأن هذا الطريق هو الوحيد للوصول إلى السلطة وتقديم خبرتك في قيادة الوطن لمرحلة زمنية ، والمسئولية تلزم الجميع في تأكيد الإحساس العالي تجاه ترسيخ تلك الثقة ، وأن صعودك على رأس السلطة ليس اختطافا أو صعودا أبديا ، وإنما هو اختيار مرحلي قد تضطر لإخلاء موقعك فيه في أي لحظة لمنافسك أو معارضك فردا أو حزبا ، والاحتكام دائما للشعب ، ليس فقط عند انتهاء فترة ولايتك الدستورية ، بل وحتى عندما تستشعر أن البلاد في حال من الخطر أو القلق وأن مخرجات الصندوق لم تحقق سلاما اجتماعيا ، فيتم الدعوة لانتخابات مبكرة كما يحدث في أي ديمقراطية جادة ، فخطير جدا أن ترسخ فكرة أنك امتلكت السلطة ولن تتنازل عنها أبدا . هزيمة الانقلاب في تركيا كان مهما جدا للعالم الإسلامي والعالم الثالث بشكل عام ، لاستعادة الأمل في صياغة مجتمع حديث حر وديمقراطي تحترم فيه كرامة الإنسان وحقه في الاختيار ، وتنتهي فيه مرحلة تصفية الخلاف السياسي بالدم والزنزانة ، وهذا المعنى هو ما أفزع كل أنصار الديكتاتوريات العسكرية الذين أحبطهم فشل الانقلاب في تركيا .