«مستقبل الثقافة فى مصر». كان عنوان الكتاب الشهير، الذى كتبه طه حسين منذ أكثر من سبعين سنة، بمناسبة الاستقلال السياسى، كخارطة طريق لنهوض البلاد من بعده.. وما زلنا بعد مرور كل هذا الزمن على استقلالنا، الذى طالما استخدمه سياسيون «شعبويون»- ومثقفون متواطئون معهم- لإثارة صراعات سياسية وثقافية مفتعلة، ما زلنا نبحث عن مكان محترم لنا فى هذا العالم.. وتداعيات معركة اليونسكو الآخيرة، التى يريد البعض سياقها هى الأخرى فى إطار صراع ثقافى، تدل على أن ذلك التفكير العاجز ما زال يستخدم للتعويض عن الفشل فى بناء نظام سياسى يحترمه العالم، وتنبت وتزدهر خلاله الثقافة الحرة الخلاقة التى يمكن أن يقدرها العالم. لم يعتبر طه حسين أن الاستقلال يعنى العداء أو الصراع السياسى أو الثقافى مع الآخر (حتى فى حالة المحتل البريطانى السابق، الذى أشاد بثقافته ونظامه السياسى)، إنما كان يعتقد أن الاستقلال الحقيقى يعنى المشاركة الفعالة فى بناء الحضارة المعاصرة، أى المشاركة فى إثراء العالم بدلا من الصراع معه .. ومن ضمن الأسباب التى سردها لتبرير أهمية تلك المشاركة هو الرد الاستباقى العملى على من يتهمنا من العنصريين فى الغرب كالآتى: لقد «طالبوا بالاستقلال واتبعوا انفسهم واتبعوا الناس فى المطالبة به حتى إذا انتهوا إليه لم يذوقوه ولم يسيغوه ولم يعرفوا كيف ينتفعون به». وكبديل للنظرة الصراعية، اعتبر طه حسين أن الحضارة المصرية متلاقية منذ القدم بالحضارة الغربية- فاليونان، وهى اصل تلك الحضارة، قد تأثرت بمصر القديمة، والعرب قد تأثروا فى أزهى عصورهم بالفكر والعلم اليونانى. واوروبا تأثرت بعد ذلك بفكر الإسلام والعرب. فى هذا السياق، لا يمكن اعتبار تواصل مصر الحديثة مع الحضارة الغربية إلا نوعا من التلاقى مع تراتها نفسه، وإعادة إحياء لتاريخها العظيم ذاته. ويتساءل طه حسين كيف يمكن للبعض أن يشكك فى أهمية المشاركة المصرية الفعالة فى التراث الإنسانى المعاصر، لأنه قادم فى معظمه من اوروبا، فى حين أن دولاً مثل اليابان (وكانت قد بدأت نهضتها آنذاك) قد نجحت فى ذلك، رغم عزلتها شبه التامة عن الغرب على مدى تاريخها الطويل؟ لذلك أعتقد أن ترديد البعض مقولة شاعر الاستعمار «كبلينج» بأن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، لا يعبر إلا عن انصياع لنظرة استعمارية عنصرية. لكن الكثير عندنا وقع فى هذا الفخ، وتبنى تلك النظرة العنصرية ضد نفسه، وتبناها أيضا نظامنا السياسى خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وطبقها فى مجال السياسة والاقتصاد ونشرها فى الثقافة العامة من خلال إعلامه ونظام تعليمه، حتى صارت من ضمن ال«ثوابت» المهيمنة على الوجدان المصرى، الثوابت التى اختفت معها الثقافة الحرة والحراك الفكرى الخلاق وساد الانغلاق.. وضاع حلم طه حسين، الذى كان يصور النهوض الثقافى والإلحاق الفكرى بالعالم المعاصر كحجارة مؤسسة للحرية والتعددية السياسية والاجتماعية والسبيل الأمثل لبناء هوية حديثة للإنسان المصرى الحر، المستقل والمسؤول، الذى يجيد الإنتاج والابتكار ويعرف حقوقه وواجباته. «معركة اليونسكو»، التى أيدت فيها «دول الجنوب» وزيرنا، بينما عارضت ترشيحه دول العالم الصناعى الحديت، لا تدل بالضرورة على أن الأخيرة تعتقد أنها فى صراع حضارى معنا، إنما تدل على فشلنا فى تحقيق برنامج طه حسين: لقد نادينا بالاستقلال السياسى وحصلنا عليه، لكن ماذا فعلنا به؟ فأين المشاركة الفعالة فى بناء الحضارة المعاصرة التى تيقن طه حسين أنها السبيل الأمثل لضمان احترام العالم لنا؟ سجل الفنان فاروق حسنى الشخصى ليس بائسا، وهذا ما مكنه من المنافسة على المنصب بندية، لكنه عمل كوزير فى ظل مناخ سياسى وفكرى راكد ومنغلق ومفلس. هذا هو الذى هزمه فى النهاية.. فقد تم فى عهده بناء مكتبة الأسكندرية مثلا، لكنها ظلت «منظرا» اكثر من مضمون، لا تحتوى على أكثر من عُشر عدد الكتب التى صممها المهندسون الإسكندنافيون لها. وقام، وسط حملة مهووسة، باستضافة المايسترو العظيم «دانيل بارنبويم»، لكنه فعل ذلك فقط بعد أن كان قد اضطر للحديث عن حرق الكتب، فى سبيل إرضاء التيار المدمن للصراعات الوهمية بدلا من الاهتمام بتحسين الذات. وسادت عمليات مصادرة الكتب والأفكار فى عهد وزارته الأزلية، عملا بنفس مبدأ المزايدة على الظلاميين. وبمناسبة مسألة حرق الكتب، فقبل أن يتهم البعض عميانيا «اللوبى اليهودى العالمى» فى عملية إسقاط حسنى، فالجدير بالإشارة أن أحد أهم المعلقين الأمريكيين، وهو كاتب النيويورك تايمز «روجر كوهين»، كان من ضمن من أيدوا ترشيح حسنى.. حتى «نيتنياهو» قد تم استقطابه لخانة الحياد فى معركة حسنى. لكن مسألة حرق الكتب قد سلطت الأنظار على الإفلاس والانغلاق الفكرى والثقافى السائد عندنا، وهذا يكفى لئلا يكون من تحكم فى حياتنا الثقافية خلال ربع القرن الماضى مؤهلا لأن يديرها فى العالم كله مستقبليا. فربما أن العالم المعاصر قد يئس من إمكانية تحسن الأوضاع عندنا، فقبل بالأمر الواقع، لكن ذلك لا يعنى أنه يحترم تلك الأوضاع أو يعجب بها، أو أن عليه مساندة نظامنا السياسى خارج إطار الحد الأدنى اللازم لضمان مصالحه. فالمعركة التى خسرناها لم تكن بين فاروق حسنى ومرقص وكوهين، إنما كانت أكبر من ذلك بكثير. ومن لا يدرك ذلك، عليه مراجعة كتاب طه حسين.