لم يكن الراحل الكبير رجاء النقاش قد تجاوز أربعة وعشرين عاما عندما أصدر كتابه الأول في أزمة الثقافة المصرية عن دار الآداب اللبنانية عام1958, حسبما يبدو من المقدمة التي كتبها سهيل ادريس الكاتب المعروف آنذاك وصاحب دار الآداب التي كانت في ذلك الوقت واحدة من منارات الثقافة العربية, ومن اكثرها تعبيرا عن التيار القومي العروبي في ذلك الوقت. ومنذ صدر هذا الكتاب قبل ما يربو علي نصف قرن, أصدر النقاش عشرات الكتب, الا أنه لم يفكر في إعادة طبع كتابه الأول علي الرغم من الأهمية الخاصة لهذا العمل الذي كتبه وهو لايزال في الرابعة والعشرين من عمره, والحال ان ازمة الثقافة العربية ليس الكتاب الأول للراحل الكبير فقط, بل ان ما يلفت النظر حقا هو احتواؤه علي عدد من القناعات الفكرية والسياسية التي ظل النقاش وفيا لها ومخلصا لمنطلقاتها الاساسية. ورجاء النقاش لمن لا يعرفه كان طرازا خاصا من العاملين في الصحافة الثقافية بل كان رائدا لها في حقيقة الأمر, فقد تولي مسئوليات ثقافية عديدة اثبت من خلالها فعاليته وكفاءته, وعلي سبيل المثال عندما تولي مسئولية مجلة الهلال وسلسلتيها كتاب الهلال وروايات الهلال, أصدر عددا كبيرا من الأعمال الابداعية والفكرية, تظل دار الهلال تفخر بها بعد مرور ما يقرب من اربعين عاما بل يمكن القول إن الدار لم تصدر علي امتداد تاريخها اعمالا علي هذا القدر من الأهمية حيث عرف العالم العربي للمرة الأولي من هو الطيب صالح من خلال روايته موسم الهجرة إلي الشمال كما عرف محمود درويش للمرة الأولي, عندما تصدي النقاش لهذه المهمة وكتب عمله المعروف محمود درويش شاعر الأرض المحتلة, وغيرها من الأعمال الشامخة لكتاب عرب وأجانب. وحدث الأمر نفسه عندما تولي رئاسة تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون وحولها إلي مجلة ثقافية كبري في أواخر ستينيات القرن الماضي وكذلك عندما تولي رئاسة تحرير مجلة الدوحة وصحيفة الراية القطريتين وفي اثناء ذلك لم يتوقف النقاش عن الكتابة والانتاج المتواصل والتأسيس ومن بين ما اسسه سلسلة ذاكرة الكتابة التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة وخصصها لإعادة نشر اعمال كبري سبق صدورها في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ونفدت وهي ذات السلسلة التي اصدرت طبعة ثانية من عمله الأول في أزمة الثقافة المصرية التي قدم من خلالها نفسه ككاتب وناقد يبدأ خطواته الأولي. والواقع ان المقالات التي نشرها النقاش في كتابه تكشف من الوهلة الأولي, أن هذا الشاب الذي كان في اوائل العشرينيات, سوف يكون له شأن في الكتاب, فهو يشتبك علي الفور مع قضايا زمنه الكبري, بل ويعتبر كتابه محاولة لتأريخ الحركة الثقافية في مصر خلال ثلاث سنوات تبدأ من سنة1954 إلي سنة1957, ولسنا مبالغين إذا اطلقنا علي هذه السنوات الثلاث اسم سنوات الازمة فقد كان الصراع خلال هذه السنوات حادا عنيفا بين شتي العقائد والأفكار, ذلك لأن المجتمع في مصر كان يناضل من اجل إيجاد شكل جديد له بعد أن انهار الشكل القديم سنة1952 يضيف النقاش لقد كان المجتمع يتجدد في علاقاته الداخلية وعلاقاته الخارجية, وكانت عملية التجدد صعبة ومرهقة, وكانت تستدعي كثيرا الاحتشاد العميق والحذر... حسبما كتب في التمهيد لكتابه. وهكذا كان الشاب رجاء النقاش مرتبطا منذ اللحظة الأولي بالتيار القومي العروبي, وإن كان متأثرا بالماركسية إلي هذا الحد أو ذاك وكان مؤقتا بالثورة التي كانت تشق طريقها وسط العواصف والانواء, وفي الوقت نفسه لم يكن ذلك الإيمان طريقا لتحقيق المكاسب وجني الارباح بل اشتباك مع واقع يتشكل, واختلافا مع ما يراه معاديا للتيار الذي اختار ان يحارب ولا يربح تحت لوائه. لذلك لا أظن انه من قبيل المصادفة, وقوفه ضد الثقافة الامريكية بكل هذا العنف, فالمقالان الأولان علي سبيل المثال تحت عنوان واحد هو مصر والثقافة الامريكية يناقش فيهما معا الدور الذي لعبته مؤسسة فرانكلين الامريكية والتي كانت تتخذ من القاهرة مركزا لها في اواخر خمسينيات القرن الماضي, ويحدد في المقال الأول منهما الوسائل الثلاث التي اعتمدت عليها المؤسسة لخدمة اهدافها في نشر الثقافات المسمومة حسب وصفه, والتي لا تعالج مشاكل المجتمع, بل مرتبطة بالقوي التي يهمها استقرار الاوضاع في المجتمع المصري علي اساس من الظلم والخطأ في توزيع العمل والثروة, وعلي اساس من استمرار التبعية لدول الاستعمار الكبري حسب وصفه ايضا. أما الوسائل الثلاث التي اعتمدت عليها مؤسسة فرانكلين فهي شغل دور النشر الكبري وتوجيه امكاناتها إلي خدمة لون معين من الانتاج, والثانية اغراء ذوي المراكز الثقافية الكبري في مصر للقيام بالنشاط المطلوب, ويحدد من بين هذه الاسماء العقاد وعلي ماهر ومحمد حسين هيكل وطه حسين وأحمد زكي والسنهوري, والثالثة متصلة بالشكل وتعتمد علي جودة الاخراج المطبعي لكسب القاريء خصوصا وان ثمن هذه المؤلفات في السوق اقل بكثير من تكاليف طباعتها, فضلا عما تدفعه المؤسسة من أموال لدور النشر والمشاركين سواء بالترجمة او التأليف. لا يلقي الشاب رجاء النقاش الكلام علي عواهنة هنا بل يورد امثلة محددة من خلال الكتب التي اصدرتها مؤسسة فرانكلين فالكتب المترجمة مثلا لا تمثل حقيقة الثقافة الامريكية الحية, ولم تترجم قصة واحدة لشتاينبك أو ريتشارد رايت أو دوس باسوس وهيمنجواي. والأعمال المكتوبة بالعربية تعمد إلي تشويه بعض القيم النفسية للأدب العربي, ويورد النقاش مقدمة عزيز أباظة لكتاب محمد عبد الغني حسن عن المهجر, وينتهي إلي أن فرانكلين تمهد الأرض لأهداف أخري كان من اللازم أن يلتفت إليها الكتاب المصريون الذين يشاركون في هذه الكتب ويشاركون في خلق هذا الشعور بالميل نحو أمريكا. ويواصل الشاب رجاء النقاش هجومه علي الثقافة والسياسة الامريكية في المقال التالي الذي يحمل العنوان ذاته, ويمتد هذا الهجوم إلي مؤسسات ودور صحفية اعتبرها أدوات لتنفيذ السياسة الامريكية مثل دار أخبار اليوم التي اتفقت في شهر نوفمبر1955 مع المؤسسات الأمريكية المختلفة علي إصدار مجلات أمريكية منتظمة في ترجمات عربية مثل المختار و لايف مؤكدا انه علي عاتق المثقفين المصريين مسئولية كبيرة و عليهم أن يقاوموا هذا الطوفان.. ولو بالدموع. ثم يعود لأخبار اليوم مرة اخري في مقال منفصل اختار أن ينهي به كتابه, وقد كتبه بعد العدوان الثلاثي عام1956, وذكر بوضوح شديد أن من المؤسسات التي أكن لها كثيرا من البغض والكراهية مؤسسة أخبار اليوم.. ذلك لأنني كنت أحس مع كثير من المواطنين ان هذه الدار تهدف إلي التعاون مع أي قوة تضمن لها الربح حتي ولو كان ذلك علي حساب مصلحة المواطنين ومصلحة العباد.. وبعد أن يستعرض سريعا الدور الذي تلعبه أخبار اليوم يطالب بتأميم أخبار اليوم وتحويلها إلي مؤسسة وطنية يشرف عليها كتاب ومفكرون مخلصون لقضية الوطن مؤمنون بحقوق المواطنين العرب.. ان مصر تعتز بصلابة جبهتها الداخلية.. فلا تدعوا في هذه الجبهة ثغرة قد تدخل منها أسوأ الاخطار عن طريق تسميم ثقافتنا وأفكارنا وقضايانا الوطنية وليتذكر القاريء ان هذا المطلب لم يتحقق إلا بعد مقالة بعدة سنوات! باقي مقالات الكتاب تعالج مشكلات ثقافية وسياسية كانت مطروحة علي الواقع بقوة مثل قضية السودان والفكر السياسي وهو تقريبا أقدم مقال في الكتاب عشية اعلان استقلال السودان في يناير1956 اثر الاستفتاء الذي أجري في أواخر ديسمبر عام1955, ومثل مقاله عن الازهر والثقافة الجديدة والذي يدعو فيه إلي الغاء الازدواج التعليمي من خلال إلغاء التعليم الازهري, مع الابقاء علي الازهر ذاته كجامعة مستقلة لها طابعها الخاص, ومثل مقاله عن محاولة د. طه حسين لتبسيط الاملاء العربي ومقاله عن حياتنا الثقافية بعد معركة1956 وغيرها من المقالات التي اشتبك من خلالها الكاتب الشاب رجاء النقاش مع قضايا الثورة الوليدة بكل عنف وبلا تهاون والأهم بوضوح شديد. أما الشاعر الشاب وقتذاك صلاح جاهين فقد حظي من جانب النقاش بمقال نقدي بعد أن نشر ديوانه كلمة سلام بعد العدوان الثلاثي عام1956, واعتبر أن جاهين يمثل نقطة مضيئة متطورة في اللون الثاني من الشعر الشعبي كما انه واع إلي حد كبير بواقعه, انه يعرف المعني الموضوعي في عرق الفلاح وأضاف انه واع أيضا بسطوة المصنع الكبير وضعف العامل الوحيد المنفرد وينتهي إلي أن الشاعر الشاب صلاح جاهين واع أيضا بدورة الحياة التي يدعون في عمق إلي المساهمة في توجيهها وهو يدرك ويريد أن يكون اتجاه هذه الدورة في صالح الانسان وان تكون حركتها الرئيسية هي: بكرة أجمل من النهاردة. هكذا تكلم الشاب رجاء النقاش منذ أكثر من نصف قرن من الزمان, ومع ذلك فإن أغلب القضايا التي أثارها مازالت صالحة لإثارة الدهشة والاشتباك والمقاومة أيضا!