قلتُها في مستهل تغريبة أشبه بالمنفى الاختياري، وفي بلاد تتنفس فيها هواءً ليس لك، وتشرب ماءً لم تنجبه سماء؛ تحنّ إلى طين خُلقِتْ منه روحك.. وموج رافقك في مسيرة الحب والحزن والحلم.. وتسافر أنفاسك إلى أغصان الصفصاف وشموخ النخيل وشجن الرمان، وغايات سنبلات القمح التي نبتت منها أبداننا.. هنا السفر على بساط الروح، وهناك رقدتي في ظل كافورة تستحم بهدأة الحياة، وتُناغم طيور الله الهانئة بالبراح. هناك بزغتُّ ترنيمتي، واخضرَّتْ روحي.. وهنا تشظّتْ عيني، وتوزّعتْ رئتي في المدائن.. وكانت الجمرةُ الملقاة على خارطة القلب بمنزلة جواز السفر إلى أحلامٍ مُشْتهاة وميلاد فجر تأخر طويلاً.. وهنا يمسي الشعر وطناً في البعيد المتنائي، وترتاح الروح في حضن القصيدة ويطير البدن إلى طينة خُلق منها، وكما قال ابن عربي" كل بدن يحنُّ إلى ترابٍ خُلق منه ". لكن هل الحنين يكفي لكتابة قصيدة بامتداد الوطن؟ وهل الاغتراب وحده يمنحك القدرة على إبداع تجربة شعرية مغايرة، تترجم التشظي في بلاد الله والبحث عن بديل للأهل وسط عباد الله الآتين من كل حدب وصوب؟ هل يكفي الشعر لترجمة جراح مسفوكة في هذه التغريبة التي فُرضت عليك؟ وكيف ستخلق من رملة الصحارى روحاً خضراء يا ابن الماء ورفيق البهاء؟ أسئلة مرهقة للروح أبحث عن إجابات لها منذ 12 عاماً هي عمر التغريبة المريرة، وما إن تنتهي القصيدة من ولادة وجهي أبدأ خطوة جديدة على طريق البحث عن مرفأ للنور، ونافذة للحب في الوطن المفترض، بينما كل من حولك يُذكّرك ببشاعة ما نحن فيه من تجربة مريرة.. حيث الوطن الأم لا يزال ينزف أوجاعه طارداً المزيد من أبنائه، فيما يحلم ملايين الأقران بالخروج منه إلى أرض يظنونها أرأف حالاً وأوسع مجالاً، لكن ليس من ذاق كمن سمع.. أنت ذُقتَ الانشطار وكتبتك قصيدةُ الوجع مرتين.. مرة حينما غنيتَ حالماً.. وأخرى حينما لقيك وجه أبي جهل على باب الخيمة ليسألك: ألم تختف وجوهكم بعد أيها القادمون من بلاد الحياة؟ اغتربتُ فاضطربتُ.. قالها رفيق التغريبة والجمر عباس منصور.. فقلت له: تخيّلتُ أبي جهل وأنا أفتح له باب الخيمة ليقول لي أنشدني شعراً يا ابن النيل: ساعتها لن أجد سوى قولي: جئتك من بلد العصافير. ليرد بالقول: إذن سأصنع قفصا يليق بك!! هنا غنينا في أمسيات الخميس.. على ناي الأمل ووقع الذكريات الحبيبة رسمنا أغاريد بامتداد فضاء السفر.. أنا مسافر في الطين يا أبي.. أنا مرتحلٌ في جذع شجرة أرضعتني النبض والحب والحياة.. أنا ولد الحب جاء ليكمل تعميد روحه.. .. أما أنت يا " حابي" فقد عذَبتني فهذّبتني".. قصيدتك يا سيد الحياة تسري في شراييني لتصبح وطناً في الغربة/ المنفى. أثمرت التغريبة - بعد 12 عاماً - حباً وحلماً.. هزائم وخسائر.. انكسارات وانتصارات.. و4 مجموعات شعرية منها مشروعان يموسقان أوجاع الطير ويتخذان من الأخشاب سريراً تولد عليه حياة أخرى، هنا جاءت " سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت" - وهو ديواني المفضي إلى أفق الروح- لتعلن ميلاد مشروع شعري يستوي على ماء الوجود منطلقاً من لحظة الخلق الأولى.. وراصداً نبضة الأغصان والمقاصل وخشبة الصول عبد الحميد التي أدمتني؛ لأنني برأيه جئتُ إلى الدنيا خطأ، وزُرعتُ في رمال الكتيبة خطأ، ولبستُ البدلة الميري خطأً وأمسكتُ البندقية خطأ.. لكنه مسكين جداً لا يعلم أن الروح تحتضن الوجود فتصبح القصيدة وطناً. -------------- النص| مسافرٌ في الطين! بكى الجدارُ على أطلالهمْ كمدا وماءُ عينيه من طول النوى جمدا يا دهمةَ البينِ هذا الحلم مرتحلٌ يحجُّ للصمتِ .. والشوقُ البهيُّ بدا الوقتُ يذوي ولا عيد نقرُّ به والليل سهدٌ وقلبي في الزمان سُدى أنا اليتيمُ وأشجاري مسافرةٌ بتربةِ النوح.. هذا الطينُ لي شهدا خرجتُ في الأرضُ عشَّاقا ومتَّقداً ورمتُ في الليل وجهاً واحداً أحدا
طيرٌ على الروح حطَّ اليوم مُرتقباً صبابةً نزفتْ آمالها أمدا وصاحبتْ لهفةَ الصحراء فارتسمتْ على الرمالِ عيونٌ ترقبُ البددا
بوحُ المحبين.. رملُ الروح.. خارطةٌ لمن يضلُّ سبيلَ الحبِّ والرَّشَدَاْ
صليتُ في فلواتِ العمر مُتَّحداً بسورةِ الحبِّ يا فرحَ الذي سَجَدَاْ وأمَّني الطيرُ مُزداناً بدمعته وأمطر القلبُ من حسن الحروف ندا حرفٌ أنا في كلام الوجد طاف بهِ هذا الجدارُ.. ورغم الهدم ما ابتعدا
بكى الجدار.. ولي في كل أمنيةٍ رسمٌ وحلمٌ وشوقٌ بات مُتَّقدا شرَّقتُ غرَّبتُ هذا الطينُ يعرفني وآهة البيت ترمي للفؤادِ هدى
حقلي يناجي المدى في الفجر مبتهجاً بآهة الصبرِ والتحنانُ قد رقدا وصورةُ القمر الأبديِّ في دمنا مزدانةٌ بهوى المشتاقِ حين شدا
النايُ لولا فراق الغصنِ ما ارتسمتْ ترنيمةُ الكون في قلب الهوى بَرَدَى
نخلاتُنا ظمئتْ.. يا طولَ ما احتملتْ عمر التغرُّبِ لا أحصي له عددا قلبي هناك.. وأنفاسي هنا عدمٌ أبيتُ في الليل قربَ الباب.. مُبتعدا وتوَّجتني السواقي صاحباً ثملاً فرشتُ بوحي وما لي غيرُ رجعِ صدى بحثتُ عني على جدرانِ من عشقوا وتهتُ عني.. وما كنتُ الذي وجداْ!! ----------- * محمد عبد الحميد توفيق، شاعر مصري مقيم في الكويت، صحافي في جريدة القبس.. صدر له دواوين هندسة الأوجاع - سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت- وحدَهُ الشجرُ العارفُ بالسر _ طائرتي الورقية - شعر للأطفال.. تحت الطبع: ديوان (.. يا مولاي).. و (أغنيات النيل) شعر للأطفال. الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي الشهادة المنشورة في المشهد الأسبوعي بهية طلب http://almashhad.net/Articles/994541.aspx أحد عشر كوكبا يضيئون المشهد الشعري http://almashhad.net/Articles/994524.aspx أحمد حسن عبد الفضيل http://almashhad.net/Articles/994548.aspx أسامة حداد http://almashhad.net/Articles/994551.aspx أشرف البولاقي http://almashhad.net/Articles/994556.aspx السيد الجزايرلي http://almashhad.net/Articles/994558.aspx تقى المرسي http://almashhad.net/Articles/994562.aspx عزمي عبد الوهاب http://almashhad.net/Articles/994563.aspx علي عطا http://almashhad.net/Articles/994565.aspx فتحي عبد السميع http://almashhad.net/Articles/994567.aspx