كيف احتلت الرواية هذه المنزلة -في مصر - منذ أول رواية صدرت؟ مصر التي انفردت بأن حولت الشعر من مدح الخلفاء، إلى تعبيرٍ عن كدحِ الفقراءِ فعرَف العالمُ الشاعرَالجزارَ والورَّاق والحمامي والصائغ والخياط والعطار والكحال، مصر التي أنزلت المسرح من علياء الآلهة إلى حكايات البسطاء وأحلامهم في الحواري والشوارع والأزقة، وإن ذكر الملوك فعلى سبيل السخرية والتندر، مصر التي جاءت ملاحمها انتصارًا للجميع الشطار والعيارين والفرسان والملوك..، مصر التي حاز بنوها العلم والكرم والأصالة رغم القهر والفقر والاستبداد؛ لهذا تأخذ الرواية منزلتها؟ فهي وعاء جامع لما يريد الكاتب أن يعبر عنه؛ ففيها الحكاية الكاملة بما تحويه من مكان وزمان وشخوصٍ، وفيها من كل فنِّ فنٌّ؛ فمن تحولٍ درامي، ومن شعرية السرد أو الحوار أو كليهما.. ببساطة: وجدت الرواية في مصر بيئتها النموذجية وأهمها المتلقي... وإن شئنا الدقة: المتلقون. تلك فرضية قابلة للنقد والنقض: الرواية زهت حين وجدت البيئة المثالية؛الكاتب والمادة والقارئ. ثمة عوامل لا يمكن إنكارها، لكنها بقليل من اتساع الرؤية لا تعارض إن لم تؤكد فرضيتنا؛ فهل عمق التحولات الاجتماعية التي تمر بمصر تحتاج إلى فن معقد؛ فنٍّ مؤسسي يحتاج إلى هندسة وإحكام.. يخرج عن (المادة) التي هيأت للرواية مكانتها، وهل شعور الكاتب بأن هذا الشكل هو الأنسب للتعبير إلا موجه أساسي لتبنيها كتابة؟ سيقولون إن الجوائز هي التي دفعت الجميع لكتابة الرواية.. ويبدو أن أصحاب هذا الرأي لا يذكرون أن نجيب محفوظ لم يستطع نشر إحدى رواياته لأنها تجاوزت الألف صفحة، واضطر إلى أن ينشرها على حلقات عندما تهيأ له الأمر.. ثم صدرت في ثلاثة روايات وعرفت بالثلاثية.. ولم تكن هناك جائزة ولا غيره.. هناك وعي أديب ومادة محفزة وقراء منتظرون. كتابة الرواية مخاطرة من العيار الثقيل.. فالكاتب يقتل نفسه –لا يباعد بينها وبين النص فحسب - وإلا قتل روايته وشخصياتها وأحداثها، الرواية نص مجهد يأخذ زمنا طويلا في البحث والكتابة، الرواية مقامرة خطرة؛ فالمجموعة القصصية والديوان الشعري يتكون من عدة نصوص.. أما هنا فأنت أمام نص واحد يصدك حجمه الكبير منذ البداية، وعلى الكاتب أن يحتفظ بقارئه.. وأن يخرج القارئ من نصه كل مرة بشيء، وأن يظل منجذبًا لما سيتلو –إن قطعه عن القراءة شيء –لا بد من إمتاعٍ وإقناعٍ موزعين أو بتعبير أدق: ساريين في النص سير الدم في الجسد. هذا الملف الذي حاول أن يضم كتابًا متنوعي المادة؛ بحكم التعليم والثقافة والاحتكاك والتوجه والموضوعات وطرق البناء، لا يريد –ولا يدعي –أن يكون موسوعيًّا أو شاملاً، وإنما يريد ويَدَّعي تمثيلَ الرواية المصرية، إلى حد ما، وإن لم يحدث هذا فهو لأسبابٍ أولها تقصيري. من الإسكندرية –حيث البداية - تكتب الرواية إبراهيم عبد المجيد، فالكاتب الأب بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ، يعترف: "لم تكن الكتابة اختيارا"ثم يذهب لما هو أبعد؛ إنها الباقية: "كل المعارك والحروب انتهت وبقيت الكتابة والفنون. كل الاختراعات تتغير كل يوم وتبقي الكتابة والفنون. هذه هي الكتابة". ومن فَلَكه وفُلكه يطل نوح الرواية الذي لم يقعده العمر عن الاعتراف؛ الكتابة مغامرة للإدهاش، أو كما قال: " إن أهم ما يميز الكتابة الجديدة والجيدة أيضا هي البعد عن تنقيب واقع سبق تعريفه وتحديده من قبل". فيما يرى عمار علي حسن –الكاتب غزيرُ الإنتاج وقيمُه –أن الأدب أولاً وإن سبقه في النشر أي شيء، وأنه ترك الشعر كتابة وإن احتفظ وجدانه بقصائده العمودية والحرة، لكنه وجد في الرواية وعاءً مثاليًّا للكتابة، وأن الأدب خُلق ليبقى: " ظني أن الأدب هو الأبقى، لذا أنحاز إليه بكل كياني، وأعطيه من وقتي الكثير والكثير، دون أن أتخلى عن دوري في الحياة العامة". إنه الطموح لبناء أوروك الخالدة هي وبانيها إذن، عبر موهبة يحكم عليها وجود نص فني، ويجتهد لتحقيقها باحتراف كما يقول صبحي موسى –ذو العين الناقدة - : " أتصور أن لا أدري هذه هي الاحتراف ذاته، فمهنتي هي الكتابة، سواء الشعر أو الرواية أو النقد أو غيره، مهنتي هي كتابة ما يدور في ذهني بشتى الأدوات والطرق، والاحتراف أن تكون وفقاً لقواعد كل فن". إنها المقاومة بمختلف صورها، المقاومة التي لا يكسرها الموت ولا الجوع ولا تحدها القضبان، هكذا بلغته الباذخة يقول وحيد الطويلة –روح المحبة التي تمشي على الأرض - :" إن الكتابة تقاوم الموت، أو إنها السلاح اليتيم الذي يشهره الكاتب في وجهه". الكتابة هي الإنسانية، وكل إنسانٍ ساردٌ بطريقة ما، الكتابة هي الخوف من الإثم، بل هي الإثم ذاته، هكذا يقول - في تواضع يليق بعارفٍ –محسن يونس:" ما نفعله هو نشاط إنساني يدخل ضمن أنشطة الإنسان على هذه الأرض، فلسنا نخبة نتميز بشيء غير موجود عند الناس، فالسرد ليس حكرا علينا نحن الكتاب، بل هو أساس هذا الإنسان المختلف عن بقية الكائنات". الكتابة اكتشاف النفس والعالم، مثلها مثل الشعر –داء العربية الأول- هكذا يتحدث القادم من المدن المنسية المهمشة من الصعيد لحم وجهنا الذي نريقه ونتاجر به؛ فيقول ماهر مهران: " وبعد ثلاث روايات اعترف أنني اكتشفت نفسى في السرد كما اكتشفتني في الشعر". جوهر الفن اللعب، بهذا يقر المنعزل الفاتن هاني القط: " بعضنا له قدرٌ من الاختيار فيما يود أن يكون, وأنا من هؤلاء, فعندما وضعت الألعاب بين يديَّ, اخترت لعبة الرواية" ما بين أيدينا الآن هو غرفة من أنهار الرواية المصرية، لا لتروي.. بل لتشوق.. ولعلي قد أجدت الاختيار.. ----------- إبراهيم عبد المجيد http://almashhad.net/Articles/992661.aspx سعيد نوح http://almashhad.net/Articles/992663.aspx صبحي موسى http://almashhad.net/Articles/992666.aspx عمار علي حسن http://almashhad.net/Articles/992669.aspx ماهر مهران http://almashhad.net/Articles/992673.aspx محسن يونس http://almashhad.net/Articles/992676.asp وحيد الطويلة http://almashhad.net/Articles/992680.aspx هاني القط http://almashhad.net/Articles/992700.aspx اضغط هنا لمشاهدة الملف بالحجم الكامل