هناك ظاهرة أدبية معروفة فى الشعر العربى اسمها "قصيدة الرفض"، وهى تلك القصيدة التى تجهر بموقف رافض على المستوى السياسى أو الاجتماعى أو على المستويين معا. وقد ازدهرت هذه القصيدة ازدهارا كبيرا خلال موجات النصف الثانى من القرن العشرين، واتخذت صورا شتى، ولمعت فى ميدانها أسماء شتى، ودفع الشعراء الذين رفعوا لواءها أثمانا باهظة، وكانت أكثر الأثمان شيوعا هى تلك التى تتعلق بالحرية، لتقع المفارقة الكبرى "أن أكثرالمدافعين عن قيمة الحرية هم الأكثر تعرضا لفقدها". بعض الشعراء تسربت قصيدة الرفض إلى دواوينهم ضمن قصائد أخرى وألوان أخرى من الكتابة، لكن البعض الآخر قد أوقف إبداعه كله أو على الأقل الجانب الأكبر منه على قصيدة الرفض هذه، فعلى حين كانت قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" زلزالا شعريا وسط إبداعات نزار قبانى، ونقطة تحول كبرى فى رؤية قراء الشعر العربى له، وجدنا أسماء مثل مظفر النواب وأحمد مطر وغيرهما يقدمان طرحا حادا لقصيدة الرفض. على أن أكثر شاعرين تستوقفنىتجربتهما الشعريتان هما هذان الشاعران اللذان يتشابهان فى الكثير من السمات حتى يكاد التشابه يصل إلى ملامح وجهيهما فضلا عن جسديهما النحيلين، إنهما الشاعر المصرى أمل دنقل الذى عرف بلقب أمير قصيدة الرفض، والشاعر العراقى بدر شاكر السياب الذى مثلت تجربته تجربة شديدة التفرد فى هذا الميدان. ظل كل من هذين الشاعرين يذكرنى بالآخر فى رؤيته الساطعة وموقفه الواضح ورفضه الذى لا لبس فيه، وإذا كانت قصيدة "غريب على الخليج" تمثل صرخة فريدة فى الشعر العربى الفريد، مزجت بين آلام بدر شاكر السياب فىمنفاه من ناحية وموقفه الساطع من ناحية أخرى، فإن قصائد أمل دنقل مثلت منشورات ثورية ممتدة، فمن "الكعكة الحجرية" إلى "لا تصالح" مرورا ب"كلمات سبارتاكوس الأخيرة" وقائمة طويلة من القصائد، يصدح صوت أمل دنقل بالموقف الرافض، وهو الموقف الذى يشرحه أمل نفسه حين يقول : لابد للشاعر أن يكون على يسار المجتمع، رافضا لواقعه، حتى لو كان الواقع جيدا، لأنه بطبعه يحلم بالأفضل ويتوق إلى الأسمى والأجمل". هو إذن يرى الشعر طاقة مبشرة بما هو أجمل، ساعية إلى تغيير كل عوار يشهدهالمجتمع، ويرى الشاعر صاحب رسالة مقلقة لا تستنيم للواقع ولا تغرق فى مدحه، وإنما تسعى دائما إلى تغييره للأفضل. المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية