الاسم : محمد أمل فهيم محارب قنديل المهنة: شاعر، قانون الصدفة يحكم علاقته بالشعر ليقف على أرض الهواة لا المحترفين، لأن تعمد الشعر أو لبس العباءة الشعرية يحرم الشاعر من ميزة التلقائية والتجربة الاجتماعية. السؤال المطروح: الحرية والحق والجمال والحرية تأخذ الأولوية لأن الحق مرتبط بتحقيقها، والجمال نتيجة لتحققها. الموقف: غير محايد، فالشاعر المحايد شعره منه إليه،لأن حياد الإنسان يقتل في داخله الطموح. هذا كان أول ما كتبته الصحفية عبلة الرويني، تلك الصحفية الشابة العاملة في مؤسسة الأخبار، لتقرر أنها ستحاور أمل دنقل، ترفض مؤسستها الحكومية النزعة، ولكنها تقرر أن تخوض التجربة، تصر على أن تذهب لأمل، لتأتي إلى "مقهى ريش" ذلك المقهى الذي كان مقهى الأدباء الأول، وربما الأوحد الذي يجمع شعراء وأدباء الستينات. كانت عبلة تأتي في الصباح لتكتشف أن الشاعر هو من أهل الليل، تبعث له رسالة رقيقة، ليتصل بها ويخبرها بميعاد اللقاء، تلتقيه، لتكتب أول ما كتبت عن أمل دنقل، تلك البطاقة الشخصية التي أجاد فيها دنقل وصف نفسه ليؤكد أنه شاعر الرفض، ذلك اللقب الذي ارتبط به، وأصبح الشعر أكثر ما يعبر عن موقف الرفض الذي ينتهجه دنقل يقول " أنا أعتبر أن الشعر يجب أن يكون في موقف المعارضة حتي لو تحققت القيم التي يحلم بها الشاعر لأن الشعر هو حلم بمستقبل أجمل والواقع لا يكون جميلا إلا في عيون السذج" حيث يقول في قصيدته (كلمات سبارتكوس الأخيرة) المجد للشيطان .. معبود الرياح من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم" من علم الإنسان تمزيق العدم من قال "لا" فلم يمت، وظل روحا أبدية الألم! تتكرر اللقاءات، وتصبح العلاقة بين عبلة ودنقل علاقة حب، تثقلها اللغة، وتزيد من شعلتها إخفاء المشاعر الذي يتضح من الكلمات المنطلقة بعناية، لتصبح عبلة الزوجة والحبيبة، التي تخلد سيرة "دنقل" في كتاب (الجنوبي) تكتب فتقول: تأخذ محاولة العثور على مدخل حقيقي لشخصية أمل شكل الصعوبة حين نصطدم فيه بعالم متناقض تماماً، يعكس ثنائية حادة كل من طرفيها يدمر الآخر..إنه الشيء ونقيضه فوضوي يحكمه المنطق،بسيط في تركيبة شديدة،صريح وخفي في آن واحد،إنفعالي متطرف في جرأة ووضوح،وكتوم لا تدرك مافيه داخله أبدا. قلق،لا يحمل يقيناً،صعيدي محافظ،عنيد لايتزحزح عما في رأسه،وقضيته دائماً هي الحرية، فوضوي،يقرأ في أي مكان شاء في استغراق تام وسط مجموعة في سهرة،أو وحده،وسط بحيرة من الأوراق،والكتب،والجرائد،والأقلام فوق سريره. يكتب في كل مكان..في المقهى،في الشارع،فوق مقعد،في منزل أو داخل مستشفى. يتقاسم وأصدقاءه غرفاتهم ونصف السرير،ونصف الرغيف،ونصف اللفافة،والكتب المستعارة..ثم يمضي تاركاً ذكرياته،وأوراقه،وشعره وكتبه لا يحب منطقة الوسط، لاينتمي للمناطق الرمادية،يتلف الألوان جميعها ليظل الأبيض والأسود وحدهما في حياته. لا يفصح عن مشاعره ولا تدخل قواميسه عبارات الإطراء وألفاظ الحب،وعلى الآخرين وحدهم إدراكها دون إفصاح منه كتب "دنقل" يوماً، لصديق له، وكأنه يقصد نفسه: "دائماً الخوف من أن يكتشف الآخرون كم أنت رقيق،فيدوسونك بسناب" أسماه حسن توفيق هرقل وكان مزهواً بالاسم،وأسماه جابر عصفور سبارتاكوس فهو السائر دائماً إلى انتصاره في الموت تكمل عبلة وصف الزوج والشاعر فتقول "عاشق للحياة،ويحمل في كل لحظة الموت في أعماقه مردداً دائماً (إنني ابن الموت) ومتنبئ به دائمًا. في السابعة عرف فقد الأخت، وفي العاشرة عرف فقد الموت، ثم فقد الأهل..وفقد المدينة وفقد الوطن. هذا الفقد المتواصل وضعه دائماً في مواجهة الموت،ولكنه لم يفقده لحظة عشقه للحياة،لأنه لم يعرف لحظة فقدان ذاته وضياع نفسه، إن هذا الاستمتاع بالحياة هو نتاج وعي بالموت كحقيقة،وإدراك لحتميته. ظل الموت دائما هو الحقيقة،وظلت حياته هي الصراع والمقاومة المستمرة. "تحكي عبلة عن مقاومة دنقل فتقول كان آخر لقاء شعري ألقى أمل فيه قصائده هو مهرجان (حافظ وشوقي) الذي أقامته وزارة الثقافة من 16 اكتوبر 1982 إلى 22/11، إحياء لذكرى الشاعرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاتهما. تردد أمل كثيرا في حضور المهرجان، فقد كان بحالة صحية متدهورة، حيث تساقط معظم شعر رأسه وأسنانه..كما أنه لا يقوى على السير على قدميه إلا بصعوبة، وبمساعدة عكاز وفقد أكثر من نصف وزنه، وبدا هزيلا للغاية. لن أستطيع الظهور أمام الناس بهذه الصورة. إن الأمر سيتحول إلى شفقة صعقتني العبارة. إنه من أكبر شعراء مصر وأشدهم خطورة وإن قصيدته وحدها قيمة فنية كافية لإحداث التفجير في وجوه الحاضرين، فكيف يخطر بباله مرورها من خلال الشفقة قال: لن أذهب قلت: ستذهب. وستكتشف أنك أجمل الحاضرين، وأكثرهم صحة وافق أمل بسهولة، فقد كان يدرك جيدا قيمته كشاعر. حاول البعض مساعدته للصعود إلى المسرح فرفضهم بقسوة، وصعد وحده لإلقاء قصيدة (لا تصالح) .. كان المهرجان رسميا (من تنظيم وزارة الثقافة) وأمل يعلن وصيته الأخيرة واضحة، قاطعة كالسيف: إنها الحرب قد تثقل القلب لكن خلفك عار العرب لا تصالح ولا تتوخ الهرب قاطع الجمهور القصيدة بالتصفيق الحاد مع كل مقطع أو صورة شعرية، بينما ترك أمل عكازه، ووقف على قدميه بصلابة، وأنا لا أكاد أصدق أنه استطاع الوقوف ثابت القدمين، دون عكاز، طوال هذا المدة" الأبنودي وهو صديق دنقل، كان يجلس معه في أيام مرضه الأخيرة، يعود بالذاكرة سنوات للوراء حيث يتذكر قول دنقل "أنت هتبقى أشهر وأغنى منى، بس أرجو لما ييجى اليوم ده نكون أصدقاء" يومها ضحك الخال، لكنه بكى حين تذكرها فى أثناء زيارته الأخيرة لأمل فى الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام، حينها قال له الخال: "أمل.. أنت قلت لى جملة زمان"، فقاطعه أمل دنقل قائلا: "فاكرها"، فعلق الأبنودى: "أدينا لسه أصدقاء". يحكي الأبنودي، أن أول قصيدة كتبها كلاهما كانت سويًا، عندما حملا السلاح وتدربا عليه، ولكن المدرسة قررت أن ينتقلا إلى "الدفاع المدني" فيقررا "طالما شالوا مننا السلاح يبقى هنحارب بالقصيدة" في اللقاء قبل الأخير طلب دنقل من الأبنودي قصيدة "ناعسة"، تلك التي لم يتذكرها الأبنودي نفسه، ليبحث عنها، ويجدها في النهاية : ويا ناعسة لا لا.. لا لا خِلْصِت معايا القِوَالة والسهم اللى رمانى قاتلنى لا محالة!! أما الصديق الأخير الذي كان ثالث الصديقين "دنقل والأبنودي" فهو يحى الطاهر عبد الله، ذلك الصديق الذي تصف علاقتهما عبلة الرويني، بأنها علاقة قوية، وأنه كان الصديق الأقرب لدنقل، وبرغم من ذلك لم يستطيعا أن يمكثا سويًا في غرفة لأكثر من شهر، فيحى كان يحب الضوضاء، وأمل كان يهوي الهدوء. كانا دائمي الخلاف، ولكن كلاهما يرفض أن يتحدث آخر عن الصديق بسوء إلاه. في وقت مرض أمل وقف يحى باكيًا يقول "ليه أمل يموت وولاد الكلب يعيشوا" يموت يحى الطاهر قبل دنقل في حادثة سيارة، يصمت أمل، ولا يتكلم، ولكنه ينعيه في وقت وفاته بقصيدة تظهر كيف ارتبط أمل بيحى إلى حد التوحد، برغم الاختلاف: ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يَمُتْ هل يموت الذى كان يحيا كأن الحياة أَبَدْ وكأن الشراب نَفَدْ وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد يحمل "الجنوب" بهذا ثلاثة شعرء، ولد منهما اثنان في نفس العام، يولد نقل بعدهما بعامين، يصبحا أصدقاء العمر، يموت يحى، ويلحقه أمل، بمرض السرطان، الذي لم يستطع أن يتغلب على أمل، قاومه أمل، لم يتوقف عن التدخين، ولم يتوقف عن الشرب، ولم يتوقف عن الحياة، حتى ذهب إلى الموت، راضيًا لا يعرف الندم، أو الإجبار على عيش حياة لم يردها. تكتب عبلة عن لحظات أمل الأخيرة فتقول: السبت 21 مايو :الثامنة صباحا كان وجهه هادئا و هم يغلقون عينيه وكان هدوئي مستحيلا و أنا أفتح عيني وحده السرطان كان يصرخ ووحده الموت كان يبكي قسوته