قُبة سحابية بيضاء، بل ناصعة البياض، صادفتنى وأنا اترجل فى طريقى وسط أمواج الحياة .. دققت النظر إليها، فوجدتها هى .. نعم هى ذات القبة السحابية الرائعة التى كنت اُتابعها فى الأفق بالمدرسة الثانوية، حيثما كان يحلو لى مغازلتها وتتبعها وكانت هى الأخرى تبادلنى نفس الاهتمام . كنت ألهث خلفها من بين ثغرات أوراق الأشجار العملاقة فى فناء المدرسة، وكانت هى تنتظرنى حتى أعود ارمقها من جديد.. كانت تُهدينى رسائلها طيلة الطريق.. رسائلاً جعلنى لا أطق هجرها وعدم الإلتفات لجمالها ، ورغم أننى لم أتذكر فحوها بدقة، إلا أنها دائماً ما أرادت - فى كل نزهة ثنائية بينى وبينها - أن تبعثر كراكيب الذاكرة وتبحث عن مظروفها الشفاف الذى اشعل بداخلى لهفةً يملؤها الجنوح. اِنصتوا فحسب، ثم تناسوا معى هذى الطفولة والصبا .. دائماً ما كنت أرى تلك السحابة المتحركة كالوسادة الحانية المصنوعة من ريش نعام .. تظل تغوينى طيلة الطريق، وتصف لى كيف ستكون جلستى عليها ؟ وكيف سأرى الكون من مقعدى الضبابى الناصع ؟ تتعلق نواظرى بتلك القبة الفقاعية .. أغرق فى تأملها ، وتتملكنى الرغبة الخفية فى اعتلائها.. درب من خيال يحتضن أمنية طفولية قديمة طالما راودتنى وكأننى أشاهد صندوق الدنيا من مقعدى السحابى.. اَنعَم بضيافة الطيور وتغريدها عن قرب.. اسبح فى فضاء رَحب يحتضنى ويلفنى بسحابِه المتحرك العائم . اِخضع عقلِك ولو ثوان للتخيُل والتمنى واَخلع عباءة الروتين ولو بضعة دقائق واجلس فوق قُبتك البيضاء المفضلة وتابع بعيونك (اللاهثة للسماء) كيف يمكن لها الاستمتاع بالنظر من أعلى من موقع المتفرج فحسب ؟ اِستغرق فى ملكوت الطبيعة واستلهِم وحيها الذى يُبدد غضاضة الواقع صاحب الملل المتكاسل .. اِغرق فى موج سماوى صوفى بإمكانه تهدأة عذاباتِك وتبديد ظلماتِك ، بل واختطافِك عاشقاً بين الدراويش .. ياله من فاصل له روعته، يَنفُذ الى قلبِك ليهدهد أكثر بِقاعِه اضطراباً. غالباً ما تكون طفولة الأمنيات بمثابة قمة هرم التمنى ، لكننا لا نُدرِك قيمتها إلا بعد أن يمضى بنا العمر. لذا ، لا تُقابلها باستخفاف ولا تتعالِ على مثل هذه البراءة التى حفظتها لك الأيام .. وخصص مساحتك المناسبة لاقترار أحلام الطفولة والصبا، فهى ترياق لفجاجة النضج الذى يلازمه (هَمُ) وليدٌ يظل يرافق خطواته حتى مشارف الشيب ، فهيا نَطعنه بساق أخضر لم يَذبُل مع الأيام . وليكن فاصلاً بريئاً حالماً من ذكريات ناصعة لم تحمل بعد شوائب المنطق ولذوعة العقلانية .. ومن ذا الذى لا يبغى قبةً بيضاءً يعتليها عرشاً لدنياه ،، حيث تراوده الأمانى الساطعة بحكم اقترابه من النجوم .. وترافقه ليالٍ رقراقة بحكم هيمنه القمر.. وتحتويه سعادة دافئة ينثرها تبر الشمس المجدول مع شعاعها .. فقط تأمل المشهد وستجده مسرحاً رائعاً مثالياً يستجلب عالماً من التجليات ، فلا تفقد تلك النفحات التى تباغتك لتخفف عنك عناء الواقع وتقذف لك طوقاً من ندى الأمنيات . ------------- زاوية "بحبر الروح" المنشورة للكاتبة بالمشهد الأسبوعي المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية