تعا اشرب شاي عن العمال سألونى ............. ...... كانت صدمتى كبيرة حين قصدت ذات يوم أحد محلات الأحذية الجلدية التى تحظى بعلامة تجارية معروفة ، ووجدت رفوفه قد اكتظت بالمصنوعات الجلدية الصينية ، إلتفتت إلى صاحب المحل معاتبة ، أجابنى أنه يضمن لى جودة هذه البضاعة وأنه لو اعتمد على السوق المصرى وحده فلن يربح شيئا يذكر. كانت هذه الواقعة منذ سنوات ورغم أننى إعتدت عليها إلا أننى لا أنفى إصابتى بنفس الصدمة حين ذهبت مؤخرا إلى منطقة المناصرة لأجد المنتجات الخشبية الصينية وقد غزت السوق المصرى وإحتلت الصدارة ، حتى حى الأزهر ذى الطابع الشعبى لمست فيه تغيرا لا يخفى على أحد فقد أقيمت به المولات المتعددة الطوابق وإحتلها الباعة السوريون بمنتجاتهم السورية الصنع عن آخرها. الحقيقة أن ذلك كان مثار دهشتى و غضبى على رجال الأعمال فى الوقت نفسه ، فقد كنت أرى أن ما يحدث خيانة فى حق الوطن والعمالة المصرية ، فنحن نعانى من البطالة والكساد ومع ذلك نشجع على ازدهار المنتجات الأجنبية بشكل مستفز ، والأغرب أن حجتنا فى ذلك - أى فى مسألة البطالة - أننا نعانى من الكثافة السكانية فى حين أنها كثافة لا تذكر بالمقارنة مع تعداد دولة كالصين التى إكتسحت بمنتجاتها أسواقنا والأكثر غرابة أن حجتنا الأخرى هى عدم الإستقرار السياسى والإقتصادى فى حين أننا نضرب المثل بدولة مثل سوريا فى الفوضى و إنعدام الأمن والإستقرار مما يؤثر سلبا بالطبع على الإنتاج ومع ذلك فقد إجتاحت هى الأخرى الأسواق العربية لا المصرية فحسب. الصدمة الأكبر انتابتنى حين قرأت أن أحد المستثمرين قد قام بفسخ عقده مع الجانب المصرى لأن وزارة القوى العاملة ألزمته أن يستعين بالعمالة المصرية فى تنفيذ مشروعه ، بينما أصر هو على إستقدامها من دول شرق آسيا ، فلما تأزم الموقف تراجع عن مشروعه وعاد إلى بلده ، بالطبع كان مبعث دهشتى هو أن تشغيل العمال المصريين أوفر له بكثير من إستقدام الأجانب. لم أجد إجابة شافية عن هذه التساؤلات إلا حين قررت أن أقوم ببعض الإصلاحات فى بيتى مؤخرا. كان الإتفاق مع العمال هو الخطوة الأسهل فى هذه الرحلة الشاقة ، فما أن سألت عن نقاش حتى إنهالت على وفود لأختار من بينهم من يروق لى وكذلك الحال بالنسبة للنجار أو السباك أو الكهربائى ...... الخ ، ثم بدأت فصول المهزلة عند أول لقاء جمعنى بالعامل المحترم بعد أن تقاضى العربون و ضمن بقاءه فى المكان ، فلا إحترام للمواعيد و لا إتقان لأبسط قواعد المهنة ولا مراعاة للأدب أو الأصول وبكل صدق أستطيع أن أزعم وأنا مرتاحة الضمير تماما أنه لا أمانة أيضا. فذهبت عنى الدهشة و تأكدت أن البطالة التى ندعيها ما هى إلا بطالة زائفة، المتسبب الأول فيها هم أبطالها بكل أسف. حينها تأملت السيدات الصينيات وهن يطفن على البيوت غير عابئات بحرارة الجو أو الحقائب الثقيلة التى يحملونها وتكاد تئن منها ظهورهن ومع ذلك فالإبتسامة لا تفارق وجوههن مهما طال الجدال حول السعر أو حتى إن لم تتم عملية الشراء من الأساس ، وتذكرت البائع السورى الذى أجبرنى على شراء لوحة يدوية الصنع لم تكن تلزمنى بذوقه وسماحته وجودة بل وروعة المنتجات التى يعرضها، وعندما عدت إليه مرة أخرى لأستبدلها إستقبلنى بالحفاوة نفسها دون ضجر أو تأفف بل وحرص أن يطلب منى أن أرسل له صورة الحائط الذى ستوضع عليه تلك اللوحة فى رسالة، حتى يتسنى له التفكير فى شئ أنسب إن وجد. وعندما تساءلت فى نفسى اين ذهب العامل المصرى ؟ أين المدارس الصناعية التى أنشأها محمد على باشا وأخرجت أجيالا من أمهر العمال على مستوى العالم كما درسنا فى التاريخ؟ وجدت الإجابة ببساطة شديدة هى أن معظم هؤلاء أصبحوا من الماضى ، وحل محلهم مجموعة من المرتزقة الذين يبحثون عن الرزق السريع ، فمعظم العائلات الفقيرة تدفع بأطفالها إلى سوق العمل فى سن صغير فإن وجدت العائلة رزقا معقولا لابنها فى مجال معين فلا بأس ، و إن ظهر لها بعد ذلك أن هناك رزقا أوفر سيأتى من جهة أخرى ونشاطا آخر غير الذى كان يزاوله، فلا ضير أن يترك عمله غير آسف ولا مأسوف عليه ويتجه من فوره لممارسة هذا النشاط ، و بالطبع وبنفس المنطق إن وجد بعد ذلك نشاطا ثالثا أكثر ربحا فأهلا وسهلا ، فأنى يتسنى له التعلم والإتقان إذن ؟ لم يعد أحدهم يقول لمعلمه كما قال سيدنا موسى للخضر عليه السلام ستجدنى إن شاء الله صابرا ؟ والمحظوظ منهم هو الذى يربح بغير (علام) فيمتهن مهنة الدليفرى أو سائق توكتوك أو منادى سيارات وما أربحها من أعمال ، فلا عجب أن ينشأ جيل كامل لا يعلم عن مهنته سوى قيمة المقابل المادى المنتظر منها وليته يستحقه. الأكثر مرارة من كل ذلك أن كثيرا من هؤلاء إن ضمنوا قوت يومهم، استغنوا عن العمل بل ولا يكلف أحدهم نفسه عناء الرد على الهاتف إن إستنجد به صاحب العمل أو أحد الزبائن لتأخره فى إتمام عمله وربما يغلقه نهائيا إن رآك زبونا ثقيلا مصرا على أن تزعجه برنين هاتفه ، و رحم الله أياما كان العامل يذهب فيها بإلحاح و أحيانا بدون أجر إلى مكان عمله فقط ليتعلم مهنة يتكسب منها. إن كان هناك حل فى رأيى فهو أن تحظى هذه المهن بإهتمام من وزارة التربية والتعليم و ممارسة مزيد من الرقابة لتجريم عمل الأطفال سواء من الدولة أو المجتمع المدنى مع تهيئة المجتمع ليتقبل أصحاب هذه المهن من غير ثمة عجرفة أو تكبر ، ليعود الشعار : العمل شرف .. العمل واجب ... العمل امانة .... العمل عبادة ، وذلك سواء فى وسائل الإعلام أو من خلال الدراسة أو الدراما ، وخاصة الأخيرة، فقد دأبت معظم الأعمال الدرامية - إن لم تكن كلها - فى هذه المرحلة على تقديم بطل المناطق الشعبية على أنه الفتوة الذى يعيش "بالدراع" و المطواة وزجاجة البيرة والسجائر – الملفوفة - لا يكاد أي منها يفارق يده ، و للأسف لم أر هذا المشهد تليفزيونيا فحسب وإنما رأيته مصادفة من أطفال قالوا لى بإنبهار أنهم يتصرفون مثل محمد رمضان فى فيلم "الألمانى" وكانت هذه هى المرة الأولى التى أسمع فيها إسم هذا الفيلم والفنان الذى قام ببطولته رغم أنه من الواضح جدا أن له شعبية طاغية بين فئات هذا الجمهور تجعلنى أثق فى أهمية دور الدراما إن وجهت على النحو الصحيح. فى دولة كإسرائيل يتعلم الطفل هذه المهن منذ نعومة أظافره فى المدرسة كما كنا نتعلم نحن مادة "التدبير المنزلى" ولك عزيزى القارئ أن تتخيل مدى شغف طفل صغير وهو يقوم بالكشف على سيارة أو صنبور مياه أو جهاز كهربائى ثم يعمل على إصلاح اللازم وتشغيله. بمنتهى الصدق وبعد التعامل مع عشرات الأشخاص من خلال هذه التجربة المؤلمة ، سألتنى إحدى الجارات أن إرسل إليها أحدهم أجبتها بإخلاص: ما أنصحكيش ....... رحم الله والدى الذى "مانصحنيش" بدخول كلية الهندسة التى كنت أتوق للالتحاق بها للسبب نفسه. المشهد لا سقف للحرية المشهد لا سقف للحرية