النبأ الأكثر أهمية الذي يتداول في دوائر العالم الآن هو كيف يمكن حماية الاقتصاد العالمي مجددا من آثار الأزمة المالية في منطقة اليورو، والتي يحتمل أن تتسبب في هزة عالمية، تفوق في تداعياتها السلبية تلك التي ترتبت علي أزمة الرهن العقاري، وانهيار وإفلاس المؤسسات والبنوك في الولاياتالمتحدة وأوروبا وأسواق العالم؟ ومنذ أيام، وفي ضوء حالة من الخوف والذعر، شهدت البورصات العالمية تدهورا ملحوظا، ولم تنج أي سوق في العالم من التأثر، حيث أقدم المستثمرون المتخوفون علي بيع الأسهم، واللجوء إلي أدوات مالية أكثر أمانا، في آسيا وأوروبا والدول الاسكندنافية، وروسيا والولاياتالمتحدة، في ظل فكرة سلبية تتمثل في اعتبار اوروبا حاليا هي من أقل مناطق العالم جاذبية للاستثمار. كانت الأنباء السيئة قد بدأت من اليونان، وأزمتها المالية الخانقة، وتسرب تداعياتها إلي دول أخري في الاتحاد الأوروبي، انعكاسا لنظرية " كرة الجليد " التي يترتب عليها انتقال الأزمة من مكان إلي آخر في اسبانيا والبرتغال وايطاليا .. وصولا إلي دول غنية مثل المانيا التي يخشي مواطنوها دفع أية فاتورة للأزمة المالية. لقد وصلت ديون اليونان إلي حوالي 300 مليار دولار، مما أسهم بشكل كبير في اهتزاز اقتصادات منطقة اليورو، ال 16، بل واندلاع الخلافات التي كانت كامنة بين دول المنطقة، لتشتعل في أطراف الاتحاد الأوروبي الذي يسعي جاهدا للوجود الفاعل علي الساحة الدولية، خاصة ان هناك قوي صاعدة بدأت تفرض نفسها وكلمتها علي الصعيد الاقتصادي، منها الصين والبرازيل والهند وجنوب افريقيا. في إطار أزمة أوروبا المتصاعدة، حذرت الولاياتالمتحدة من احتمالات أن تؤدي الأزمة المالية والاقتصادية في اليونان إلي آثار سلبية علي الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، بينما تضاعفت تحذيرات خبراء الاقتصاد من أن تؤدي أزمة الديون الأوروبية إلي انهيار منطقة اليورو. الأزمة الأوروبية وتداعياتها وفقا للظواهر، فإن شبح الأزمة يجول حاليا بين الدول الأوروبية، مع تحذيرات من جانب الخبراء بتطورات جديدة يطلقون عليها "الموجة الثالثة للأزمة". وكانت الأحداث المالية الفارقة قد تبلورت في 2010 بوصول العجز المالي في اليونان إلي 12.7% ووصول الاقتصاد اليوناني إلي مشارف مرحلة الإفلاس، فضلا عن انتشار العجز في الموازنة بين عدة دول اوروبية، ففي أيرلندة وصل العجز إلي 11.7%، وفي البرتغال إلي 3.8%، وفي إسبانيا إلي 10% وهو ما جعل الأمل في استعادة الانتعاش يتلاشي. وبالرغم من ان رؤساء دول وحكومات منطقة اليورو عقدوا قمة استثنائية في 5/7 في بروكسل للمصادقة علي صفقة استثنائية بقرض قيمته 110 مليارات يورو يقدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لليونان، إلا أن هذه الخطوة لم تنجح في تعزيز ثقة المستثمرين بأسواق دول اليورو، وتضاعفت المخاوف من انتشار عدوي الأزمة في إسبانيا والبرتغال وايطاليا. وبعد عدة انهيارات لمؤشرات الأسهم في لندن وباريس وفرانكفورت واسواق موسكو مابين 2% - 5%، وتسجيل أسواق دول شمال اوروبا خسائر تراوحت بين 2% إلي 4% أعلنت مصادر وول ستريت خسارة مؤشر داوجونز للأسهم الصناعية أكثر من 250 نقطة مما ضاعف من مخاوف المستثمرين بانهيار الثقة في أسواق العالم، وبدأ منظمو الأسواق الأمريكيون في التحقيق في الهبوط المفاجئ والمذهل للبورصة الأمريكية والذي أدي إلي هبوط مؤشر داو جونز بنحو 1000 نقطة خلال دقائق قليلة. في إطار ذلك، أصبح واضحا أن صفقة اقراض اليونان لم تنجح في إعادة ثقة المستثمرين بأسواق منطقة اليورو، ووصلت معدلات الفائدة إلتي يتعين علي اليونان دفعها لجمع مبالغ مالية جديدة من خلال السندات العشرية إلي 12.171% مقارنة مع 10.932 %، مما حدا بالمحلل المالي رينيه ديفوس من بنك ناتيكسيس لمطالبة سلطات الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، والحكومات الأوروبية، للمسارعة بتوجيه رسائل طمأنة قوية لأرباب المال والأسواق والاستثمار في أسرع وقت ممكن. وإزاء هذه التطورات، طرحت عدة مقترحات لمواجهة الموقف منها ما طالبت به المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بفرض عقوبات جديدة علي ما تسميه " الدول المتخاذلة " في معالجة العجز الكبير، علي غرار تعليق حق التصويت في اجتماعات الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا الاقتراح لا يحظي بالتأييد. كما طرح خوسيه لويس ثباتيرو رئيس وزراء إسبانيا الذي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي حاليا فكرة انشاء "وكالة تصنيف مالي أوروبية "، بينما لاتحظي هذه الفكرة ايضا بتأييد علي أساس الاتهامات المثارة حاليا حول دور وكالات التصنيف في الأزمة الراهنة. سباق مع الزمن في سباق مع الزمن من اجل انقاذ الاقتصاد الأوروبي من الانهيار، تعهد كل من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بتقديم نحو تريليون دولار لحماية الاقتصادات في المرحلة المقبلة، وهي مساعدات غير مسبوقة في تاريخ برامج الدعم المالي .ويتكون المبلغ من 750 مليار يورو (تريليون دولار) منها 60 مليار يورو من القروض من المفوضية الأوروبية، و440 مليار يورو من القروض والضمانات من دول منطقة اليورو أي ما يوازي 500 مليار يورو (670 مليار دولار). كما يقوم صندوق النقد الدولي بتقديم مساهمة إضافية تتضمن قروضا تصل قيمتها إلي 250 مليار يورو، هذا بالإضافة إلي خطة البنك المركزي الأوروبي التي يطلق عليها اسم (الخيار النووي) لمساعدة سوق الديون في منطقة اليورو. وكمؤشرات إيجابية علي هذه الخطوات، ارتفع سعر اليورو إلي أعلي معدل له منذ 41 شهرا، وانتعشت نسبيا البورصات الآسيوية والأوروبية خاصة أن كلا من اسبانيا والبرتغال تعهدتا بالعمل علي الحد من العجز في ميزانيتهما لعامي 2010، 2011 في محاولة لطمأنة الأسواق، كما أعلنت المانيا بداية خطة لخفض الانفاق، فيما يعد محاولة لترتيب البيت من الداخل في الاقتصاد الأكبر في اوروبا. وفي إطار هذه التطورات، وتعبيرا عن القلق العالمي، اتصل الرئيس أوباما بالمستشارة الألمانية طالبا منها دعم المزيد من اجراءات ونشاطات إعادة الثقة للأسواق في اوروبا والعالم. وفي المجمل، يلاحظ تسابق المصارف المركزية الأوروبية الكبري، والبنك الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الياباني، لتنسيق الخطوات فيما بينها لإعادة الهدوء إلي اسواق العالم. مغزي الأزمة إذا كانت المقولة السائدة هي ان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حاليا تعاني ارتباكات بسبب الأزمة المالية اليونانية، فإن السؤال هو كيف تبلورت هذه الأزمة، وصولا إلي الوضع الحالي؟ يقول المحللون إن أزمة اليونان المالية ليست حديثة ولكنها بدأت منذ ما يقرب من عشر سنوات، وتضافرت فيها عوامل عديدة منها : تغييرات في البنية التحتية الانتاجية، والتراجع في بعض قطاعات الصناعة التحويلية، واضطرار اليونانيين للاقتراض من البنوك بدلا من الادخار، هذا بالإضافة إلي اجراءات اقتصادية سيئة اتسمت بسوء التصرف الانفاقي، من ذلك : المبالغة في ترتيبات التقاعد المبكر والمعاشات بتكلفة بلغت 550 مليون يورو، وصرف مكافآت لبعض الموظفين وصلت إلي 1300 يورو شهريا، ولانغفل أن اليونان نظمت دورة الألعاب الأوليمبية في أثينا في عام 2004، وواكب ذلك انفاق باذخ وترف حكومي، دفع ثمنه الفئات محدودة الدخل والطبقة المتوسطة وليس الأثرياء وكبار الرأسماليين، ومضاربي البورصة. وعلي الرغم من أن الحكومات اليونانية المتعاقبة عبر فترة طويلة استشعرت مقدمات الأزمة، إلا أنها لجأت للاقتراض في ظل إقبال المستثمرين فيما يعرف باسم "سوق أدوات الدين". ومع تصاعد الأزمة، ومطالبة الحكومة اليونانية لأوروبا والعالم بمساعدتها، فإن 70% من اليونانيين رفضوا قرارات الحكومة بقبول مساعدات صندوق النقد الدولي، واندلعت المظاهرات والاضطرابات احتجاجا علي برامج التقشف التي اعلنتها الحكومة. وإذا كانت المشكلة المالية، وإعلان افلاس دولة ليست بالظاهرة المستحدثة، حيث إن هناك أمثلة عديدة شهدت إعلان إفلاس دولة أكثر من مرة (فرنسا بين 1500 - 1800)، وإسبانيا في القرن 19 (7 مرات) إلا أن الأزمة اليونانية/ الأوروبية الراهنة تنطوي علي ملاحظات مهمة علي النحو التالي: أولا: أن النظام الاقتصادي الدولي ومؤسسات ووكالات التصنيف العالمية، ليست علي مستوي المسئولية فيما يتعلق بتطبيق قاعدة الشفافية والمصارحة، لافيما تتلقاه من معلومات عن حقيقة الوضع الاقتصادي للدول، ولا بالنسبة لما تعلنه من حقائق وتقارير بهذا الصدد، فما أكثر ما قيل عن دول أو مؤسسات أو بنوك عالمية من أن وضعها المالي لايرقي إليه الشك، ثم أعلنت إفلاسها بعد وقت قصير، وينسحب ذلك علي ما قيل بالنسبة لليونان والبرتغال وغيرهما من الدول، غير أن الأخطر من ذلك أن هناك حكومات تنفي المعلومات التي تعلنها مؤسسات التصنيف، أو تقدم لها معلومات مغلوطة لأسباب سياسية. وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن أكثر من مرة أن دولا وجهات أخري مارست الضغوط علي موظفيه لتغيير التقارير التي يصدرها أو إلغاء فقرات منها حيث (لا يميل السياسيون لسماع الحقائق). ثانيا: بالنسبة للأزمة المالية في اليونان تحديدا، فقد اكتنفتها ظروف عبر عنها الاقتصادي الشهير اندرو بوسومورث بقوله "إن الأزمة وظروفها إشارة تحذيرية لرأس المال الأجنبي بأنه ليس كل شيء علي ما يرام في أوروبا" فمن ناحية، ترددت وتأخرت الدول الأوروبية كثيرا في مد يد العون لليونان ومساعدتها وإقالتها من عثراتها المالية، وترددت ألمانيا تحديدا في الموافقة علي مساعدات لليونان إلي حد أثار انتقادات شركائها الأوروبيين. من ناحية أخري، عندما وافقت المستشارة انجيلا ميركل علي مساعدات لليونان بقيمة 22 مليار يورو، فقد خسر ائتلاف يمين الوسط بين المسيحيين الديمقراطيين والليبراليين بزعامة ميركل في الانتخابات المحلية في رينانا بشمال وستفاليا، وقيل إن هذه النتيجة جاءت تصويتا عقابيا، حيث لا يميل الألمان للتضامن مع اليونانيين في أزمتهم. ثالثا: تثير الأزمة الراهنة تساؤلات تتعلق بالعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي، ومستقبل الاتحاد نفسه، من ذلك: - هل كان توسيع الاتحاد الأوروبي من قبيل الخطوات المتسرعة والخاطئة، أو أنها جاءت في غير أوانها المناسب، الأمر الذي حمل بعض الأعضاء تكاليف مشكلات الآخرين؟ ومن الغريب في هذا الصدد أن يقال إن مساعدة اليونان لقي معارضة (شعبية) من كل دول الاتحاد وليس من اليونان فقط، لدرجة أن محللين قالوا إن القاعدة السائدة حاليا هي "أنا ومن بعدي الطوفان". - هل تؤدي الأزمة إلي إقدام بعض الدول علي مغادرة منطقة اليورو، أو أن تتخلص مؤسسات الاتحاد نفسها ممن تعتبرهم أعضاء خاسرين؟ لقد ترددت أنباء عن طرد اليونان من الاتحاد. - هل تتأثر العلاقات بين القطبين الرئيسيين ألمانياوفرنسا، خاصة أنه سبق أن اتهمت وزيرة المالية الفرنسية ألمانيا بأنها أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في دول منطقة اليورو، بسبب الفائض الهائل في ميزانها التجاري؟