برغم الرخاء والاستقرار الاقتصادي الذي عاشته الولاياتالمتحدة حتي عام2007, إلا أنه لا يمكن التعامل مع الأزمة المالية الطاحنة التي هزت الاقتصاد الأمريكي ومن خلفه الاقتصاد العالمي-في العام التالي علي أنها مفاجأة لم تسبقها أي مؤشرات ملموسة. فالرخاء الاقتصادي لم يكن سوي ثمرة لسلسلة من السياسات الاقتصادية المتعقلة التي تم إرساؤها في السنوات الأخيرة من القرن العشرين, ولكن اعتداءات11 سبتمبر2001 هزت المجتمع الأمريكي بكل فئاته وطوائفه وافقدته السيطرة علي مجريات الأمور وعلي رأسها قراراته الاقتصادية. فحالة الغليان والغضب الشعبي التي سيطرت علي المجتمع الأمريكي دفعت الرئيس جورج بوش آنذاك- إلي التركيز بشكل مبالغ فيه علي الحرب ضد كل من يفكر في معارضة النظام الأمريكي; فأعلن الحرب علي الإرهاب ومن ثم أشعل الحرب في أفغانستان والعراق علي التوالي. وبدون أي تريث, كرس الموارد الاقتصادية والمالية الأمريكية لخدمة الهدف الأعظم وهو القضاء علي أعداء الشعب الأمريكي في كل أنحاء العالم. ولا يمكن اعتبار هذه الحروب السبب الوحيد وراء الأزمة ولكن خفض الضرائب الذي تمتع به الأثرياء, و الإهمال المفرط في السياسات المالية والقيود والقواعد المنظمة لعمل البنوك والمؤسسات المالية الكبري تضامنت لإسقاط الأمريكيين والعالم في هوة الأزمة الاقتصادية.فلم يكن إفلاس بنك ليمان براذرز الأمريكي والعديد من البنوك الغربية الأخري سوي نتيجة مباشرة لانفجار فقاعة سوق العقارات الأمريكية التي تضخمت- إلي حد كبير- بين عامي1997 و2006. فمع ارتفاع أسعار المنازل الأمريكية بنسبة124% خلال فترة وجيزة وانتعاش نظم التمويل العقاري, سارعت البنوك بمنح القروض لعملائها بدون إلزامهم بتوفير الضمانات المناسبة.مما أدي إلي تضخم في الديون التي أثقلت كاهل كبري المؤسسات المالية الأمريكية ودفعتها إلي هوة الإفلاس- إن لم يسقط عدد منها فيها- خاصة بعدما تجاوز حجم الديون السيولة النقدية في الأسواق. وهو ما انعكس بشكل خطير علي البنوك والمؤسسات المالية اليابانية والأوروبية نظرا لارتباطها الوثيق بالاقتصاد الأمريكي وسرعان ما انهارت البورصات العالمية وسادت حالة من الذعر والتوتر أسواق المال. ولم تجد الإدارة الأمريكية ومن خلفها حكومات الدول والاقتصادات العالمية الكبري بدا من التدخل بكل ثقلها لانقاذ الاقتصاد العالمي من شبح الانهيار المحقق. فقد سارعت البنوك المركزية في ضخ سيولة نقدية ضخمة في الأسواق, كما سيطرت الإدارة الأمريكية علي المؤسسات المالية الكبري من أمثال ميريل لينش وفاني ماي وفريدي ماك أو بمعني أدق اممتها- كوسيلة لإصلاحها وإنقاذها من الإفلاس.. ومن ثم إعادة الهدوء والاستقرار للأسواق. كما اضطرت واشنطن أيضا للسيطرة علي كبري شركات السيارات من أمثال جنرال موتورز وفورد لإنقاذ هذا القطاع الاقتصادي الهام الذي يعاني من الفساد مثله في ذلك مثل المؤسسات المالية الأمريكية الأخري- من الانهيار. وقدر صندوق النقد الدولي خسائر البنوك الأمريكية والأوروبية الكبري بأكثر من تريليون دولار من الديون المعدومة والأصول الفاسدة في الفترة بين يناير2007 وسبتمبر2009, وسط مخاوف من تجاوزها8,2 تريليون دولار قبل نهاية.2010 ومع امتداد الزلزال الاقتصادي الأمريكي إلي القارة الآسيوية, كانت الصين واليابان الأكثر تضررا من الأزمة نتيجة لاعتماد اقتصادهما خاصة الصين- علي حركة التجارة في الغرب. فأمريكا وأوروبا من أهم الأسواق بالنسبة للصين. ولكن اللافت أن الصين تعتبر وبلا منافس أول اقتصاد يبدأ في التعافي بأقل خسائر, في حين بدت اليابان أكثر تماسكا في مواجهة الأزمة المالية الأخيرة- رغم قوتها وعنفها- عما كانت عليه من قبل في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي هزتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وبالطبع انعكست هذه الأزمة بقوة علي سوق البترول, الذي تراجعت أسعاره إلي ما دون الخمسين دولارا للبرميل بعد أن كانت قد بلغت ذروتها في منتصف2007 لتسجل147 دولارا للبرميل آنذاك, وسط مخاوف من الارتفاع المطرد في أسعار الذهب الأسود حينذاك. وبدلا من الرفاهية التي تمتع بها الشعب الأمريكي علي مدي أعوام ارتفعت معدلات البطالة لتصل إلي نحو12%, وهو ما تسبب في تخلي الكثير من الأمريكيين عن منازلهم التي اشتروها عبر نظم التمويل العقاري, وانضمام الملايين لطوابير طالبي إعانات البطالة. وذلك في الوقت الذي حذرت فيه الإحصاءات من أن أكثر من25 مليون شخص في الدول ال30 الغنية- الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية- فقدوا وظائفهم, وسط مخاوف من عجز ملايين منهم من العودة إلي سوق العمل بنفس القوة بعد انقضاء الأزمة.!والطريف في هذه الأزمة المالية وتداعياتها الإنسانية, أن المآسي التي من المفترض أن تخلق شكلا من التعاطف بين ضحاياها لا تخلف سوي روح انتقامية لا تمت للإنسانية بصلة. فوزارة العدل الأمريكية تؤكد أن هذه الأزمات يصاحبها ارتفاع في معدلات جرائم النصب والاحتيال. وهو ما دفعها للدعوة لسن قانون لتشديد العقوبات ضد النصب في الأزمات. منطقة اليورو.. وأزمة ما بعد الأزمةاشتعال الأزمة المالية العالمية وما تبعها من انهيار العديد من المؤسسات المالية الكبري.. والضغوط التي تعرضت لها البنوك المركزية في مختلف دول العالم وعلي رأسها الدول الأوروبية- والتي اضطرت إلي خفض أسعار الفائدة بها إلي الصفر- دفعت برلين إلي التخلي عن مهمتها لترميم السقف الأوروبي وتأكيد أن كل دولة أوروبية مسئولة عن نفسها في مواجهة الأزمة التي يعاني منها العالم ككل.إلا أنه مع بداية عام2010 بدأت الأزمات المالية تطل برأسها من جديد, ولكن هذه المرة من القارة الأوروبية. فالأزمة المالية التي أصابت العالم كشفت عن الثغرات التي تعاني منها الكثير من النظم المالية, وأهمها منطقة اليورو. فالفساد وسوء الإدارة والتهرب الضريبي والتلاعب في السجلات والعجز الكبير في ميزانية اليونان.. لم يساعدوا هذه الدولة الأوروبية علي الصمود طويلا في مواجهة طوفان الديون الذي أثقل كاهلها. وبما أنها عضو في العملة الأوروبية الموحدة عجزت عن اتخاذ أي إجراء عاجل مثل خفض قيمة عملتها- لإنقاذ اقتصادها الهش من الانهيار. وبالتالي فقد لجأت إلي شركائها في اليورو طلبا لمعونة عاجلة. وعلي الرغم من صعوبة الموقف إلا أن دول منطقة اليورو بالتعاون مع صندوق النقد الدولي اضطرت في النهاية إلي وضع خطة إنقاذ عاجلة لليونان بلغت قيمتها نحو110 مليارات يورو. ولم تكد أوروبا تحتوي الأزمة اليونانية حتي اندلعت أزمة ديون مماثلة في أيرلندا, وذلك في الوقت الذي تعاني فيه كل من أسبانيا والبرتغال وإيطاليا من عجز في الميزانية وأزمات اقتصادية تهددها بالسقوط في هوة ديون مشابهة. وقد دفعت هذه الأزمات المتتالية الدول الأوروبية الأقوي اقتصاديا من أمثال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إلي فرض إجراءات تقشف اقتصادي عنيفة أثارت غضب شعوبها, وتسببت في اندلاع مظاهرات وإضرابات عنيفة اجتاحت شوارعها علي مدي الأسابيع الماضية, خاصة وأن هذه ستؤثر علي مستوي المعيشة والدخل للفرد والتأمين الصحي والتعليم. ولكن الخبراء يؤكدون أن أزمة منطقة اليورو الراهنة ما هي إلا نتيجة مباشرة للثغرات التي تضمنتها معاهدة ماستريخت الوثيقة الرسمية لتشكيل منطقة اليورو- والتي تم إبرامها في1992, فالرغبة العارمة للتأكيد علي إقبال الدول الأوروبية علي الانضمام للعملة الموحدة دفع المشرعين الأوروبيين لقبول العديد من الدول التي لم تستوف الشروط- التي تنص عليها المعاهدة- من أمثال بلجيكا وإيطاليا واليونان. ولكن انضمام هذه الدول منحها الحق في الاقتراض من البنك المركزي الأوروبي بنفس سعر الفائدة الذي تتمتع به الدول الكبري وهو ما حمل المنطقة أعباء مالية كبيرة.كما أشاروا إلي أن هذه الأزمة تعكس ضعف الإدارة في منطقة اليورو, فالدول الأعضاء رفضت فرض عقوبات قاسية علي الدول المدينة التي تنتهك بنود ماستريخت تحسبا لمواجهتها هي الأخري لأزمات مشابهة. ولكن التحدي الآن يكمن في كيفية إصلاح المنطقة لتصبح نموذجا اقتصاديا يحتذي به; فهل تشكيل هيئات رقابية أوروبية تتمتع بصلاحيات للتدخل في شئون كل دولة كما فعلت أوروبا- كافي للإصلاح.. أم أن الإصلاح يستوجب استبعاد كل الدول المخالفة لمعاهدة ماستريخت؟ الذهب..الملاذ الآمن مع تصاعد الأزمات في أسواق المال والعقارات.. ومع اضطرار البنوك المركزية لضخ المزيد من الأوراق النقدية في الأسواق لتفادي أي انهيارات اقتصادية, لم يجد المستثمرون بل, والبنوك المركزية والمصارف الكبري أيضا, بدا من العودة للأصول والإقبال علي شراء الذهب. الأمر الذي دفع أسعار الذهب للارتفاع بشكل مطرد خلال عام2010 لتسجل أكثر من1400 دولار للأوقية وسط توقعات بارتفاع هذا الرقم إلي1500 دولار و2000 دولار للأوقية بحلول عام.2012