تلقيتُ دعوة من د.مرفت عبدالناصر لحضور افتتاح المركزالثقافي الحضاري الذي أسّسته بمجهودها الفردي وتم إشهاره برقم 7659عام 2009باسم «مؤسسة د. مرفت عبدالناصر للإبداع والتنمية الثقافية» في مدينة ملوي بمحافظة المنيا . ونظرًا لأنّ د. مرفت تخصّصتْ في علم المصريات علي أسس علمية، لذلك كان اختيارها للموقع عن تخطيط ووعي بتفرده وأهميته في تاريخ الحضارة المصرية، إذْ إنّ تونا الجبل ومعها آثار الأشمونين لهما دور بارز في تاريخ مصرالقديمة، حيث نشأ الارتباط باسم أحد أهم الرموز المصرية «تحوت» أوجحوتي وفق النطق اليوناني، بصفته رمزالحكمة والفكر والكتابة. وكما جاء في الملخص الذي وزعته د. مرفت فإنّ هذا الموقع في تاريخ مصرالقديمة كان قلعة فكرية قصده الباحثون عن العلم من مختلف دول العالم القديم من أجل البحث عن المعرفة، لدرجة أنّ فلاسفة اليونان أطلقوا عليه اسم هرموبولس نسبة ل «هرمس» المرادف الإغريقي للمعبود «تحوت» كما أنه قريب جدًا من موقع يهتم به أبناء العالم المتحضرفي عصرنا الحالي، أي مدينة أخيتاتون التي أخذت تسمية عربية «تل العمارنة» وهي المدينة التي اختارها آمن - حوتب الرابع «أخناتون» «1372- 1354ق.م» لنشرديانته الجديدة. وهذه المنطقة أيضًا ذات تراث قبطي / مسيحي، له أهمية خاصة، لارتباطه برحلة العائلة المقدسة إلي مصر، وأقدم الأناجيل في العالم . ولهذا المكان صلات وطيدة بمكتبة نجع حمادي . كما أنّ موقع تونا الجبل له صلات بمدينة «أخميم» التي اشتهرتْ بعلمائها وفلاسفتها خاصة بعد الإسلام» . ظلّ هذا الموقع التاريخي ينبض بالحياة «في حالة أشبه بالغيبوبة أوالموت السريري» رغمًا عن صديد وصدأ الإهمال النابع من غياب الوعي القومي بمجمل التراث المصري الذي تركه لنا جدودنا. ترتّب علي هذا أنّ السياحة الآثارية في هذه المنطقة ضئيلة لدرجة تقترب من العدم، فالوصول إليها أشبه بمغامرة انتحارية، حيث الصخوروالرمال في طرق غيرمرصوفة وسط الجبال، ولكن السبب الكارثة هو انعدام الدعاية المؤسسة علي علمي المصريات والآثار. لذلك كانت د. مرفت محقة إذْ كتبتْ «علي الرغم من كل هذا الثراء الذي تتميزبه هذه المنطقة، إلاّ أنه لايمكن بسهولة لأي مهتم بالأمرزيارة تلك الأماكن واستشعارعظمتها الفكرية والروحية. بل إنّ محافظة المنيا بأسرها ظُلمتْ كثيرًا سياحيا، خاصة في الآونة الأخيرة، مما كان لهذا الأمرأبلغ الأثرعلي المناخ الثقافي والاقتصادي للمنطقة. مناخ جعل منها تربة صالحة لنموالتطرف الديني والنزاعات الطائفية». عاشتْ د. مرفت أكثرمن 30عاماً في لندن : عملتْ في جامعة كنجزكوليدج . حاصلة علي زمالة الكلية الملكية للأطباء النفسانيين والدكتوراة في الطب النفسي، ولكنها تحوّلتْ إلي دراسة تاريخ الحضارة المصرية، خاصة بعد أنْ سألت ابن جارتها الانجليزية «نفسك تكون إيه لما تكبر يا حبيبي» فقال الطفل البالغ من العمرسبع سنوات «نفسي أكون عالم مصريات». أما الواقعة الثانية فكانت حديث سائق تاكسي إنجليزي معها عن مصرالقديمة وأنّ 90% من الكتب في مكتبته الخاصة عن الحضارة المصرية. ولإيمانها العميق بجوهرحضارتنا - بعد الدراسة المُتعمقة- كتبتْ عدة كتب عن التراث الحضاري والفلسفي لمصرالقديمة. وعندما قررت الإقامة الدائمة في مصر، تفرّغتْ لمشروع تونا الجبل. فقاعة المحاضرات والمكتبة «متخصصة في كل ما يتعلق بالتراث الخاص بمنطقة تونا الجبل» علي نمط ما كان موجودًا في مصرالقديمة. وغرف استقبال الزوار«شاليهات» علي الطرازالمصري القديم. والمبني يتكوّن من 16جناحا أخذتْ أسماء فلاسفة وكتاب لهم علاقة وطيدة بفكروفلسفة هذا المكان، الذي يحمل «سمات معمارية محلية تنم عن أصالة المكان وتوحي بالجمال والروحانية، حتي يكون بمثابة المنتجع أوالملاذ الفكري المساعد علي القراءة والكتابة والإبداع» وتتمني د. مرفت أنْ يحقق مشروعها الأهداف التالية: * خلق بيئة ثقافية متميزة تتبني العقول الإبداعية من أبناء المنطقة ورعايتهم وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه من موارد ثقافية وتدريب . * تفعيل الوعي بتراث مصرالحضاري وإظهارمقوماته والدورالذي يمكن أنْ يقوم به في ربط وجدان المصري المعاصربماضيه، وتحقيق النهضة بالتعاون والحواربين مختلف الحضارات. * الاهتمام بالسياحة الثقافية التنموية رفيعة المستوي، لتعميق الوعي بالقيمة الأثرية والتاريخية للموقع وسكانه، بحيث ىُصبح العائد المادي للسياحة مصدرًا للنهوض الثقافي والاقتصادي، وهو يحقق التنمية المستدامة، خاصة لأهالي المنطقة. * تشجيع الحواربين أبناء شعبنا، بترسيخ مبدأ «المواطنة» من خلال رحلات للطلاب . * تشجيع الشباب علي إحياء الحرف التقليدية، مع خلق فرص عمل لهم . * السعي ليصيرالموقع «محمية طبيعية» بجانب كونه «محمية ثقافية» عن طريق زراعة الأشجار المصرية القديمة المُهددة بالانقراض واستخدام الطاقة الشمسية «رأيتُ جهازًا بالفعل في الموقع لتشغيل المطبخ كبداية» وإعادة تدويرالمخلفات ومعالجتها لاستخدامها كأسمدة طبيعية، للنهوض بالوعي والثقافة البيئية الخضراء. * تنمية الوعي بالتراث المعماري لمصر، والمحافظة علي ما تبقي في المكان من أبنية لها سمات معمارية خاصة، يتم استبدالها الآن بسرعة مخيفة بأبنية عشوائية تفتقد للجمال وللخصوصية. قبل زيارتي لموقع تونا الجبل، حدّثتني د. مرفت عبدالناصركثيرًا عنه. لكن كما يقول شعبنا في أمثاله «اللي يسمع بودانه غيراللي يشوف بعنيه» لذلك عندما دخلتُ الموقع، ومعي صديقي أ. سامي حرك «أحد مؤسسي حزب مصرالأم» المرفوض من لجنة صفوت الشريف لشئون الأحزاب ومن المصريين «العروبيين» زال تعب السفر بقطار«القشاش المكيف» الذي قطع المسافة من القاهرة إلي مدينة ملوي في خمس ساعات وأربعين دقيقة، في حين أنّ السيارة تقطعه في ثلاث ساعات ونصف علي أكثرتقدير. المهم أنّ غبارالسفرومشقته انقشع. كما لو أنّ بركات «تحوت» مسحتْ علي قلبينا بنورها الروحي، فحلت البهجة محل بؤس ونكد القطارالقشاش. وعندما حكيتُ لصديقي أنّ د. مرفت عانتْ كثيرًا في الحصول علي قطعة الأرض من محافظة المنيا، والإجراءات البيروقراطية المعقدة، ومشكلة الحصول علي ترخيص بحفربئرللمياه، واستغلال المقاول والعمال لها، وكيف أنها ضحتْ بمدخراتها طوال ثلاثين عامًا في لندن، وأنها كانت تنام «وحدها» في هذه الصحراء لمدة ثلاث سنوات، حتي تم الافتتاح أخيرًا، هتف صديقي «هذه هي معاني البطولة والنبل الإنساني بلا أدني مبالغة». وكان تعقيبي: معك حق لأنّ ما قامتْ به هوعمل مؤسسي، أي عمل لاتنهض به وتتولاه وتُموله وترعاه إلاّ مؤسسة كبيرة، فكيف تحملتْ د. مرفت «كل» هذا الجهد وحدها؟ لذلك فإنني أناشد السيد محافظ المنيا ووزارتي الثقافة والآثار، وقطاع السياحة وكل من لايزال في قلبه نبض الحضارة المصرية وكل من يتمني لمصرالمستقبل الازدهاروالرقي الحضاري والمادي، بأنْ يسارعوا ب «احتضان» مركزهرموبولس التراثي وتقديم يد المساعدة «كل حسب قدرته وموقعه» إذا كنا «بحق» نستحق الانتساب لجدودنا الذين أهدوا البشرية أقوي القوانين وهو الضمير.