صدق الحكماء حينما قالوا "إن مصر ولادة"، فهي وبالرغم من جميع الظروف الاستثنائية الصعبة التي تمر بها، وبالرغم من القصور في التعليم بمختلف مراحله وغياب الدور الحقيقي للثقافة لاتزال قادرة علي تحقيق فكرة تواصل الأجيال والكشف عن المواهب الحقيقية وتقديمها بصورة جيدة، لقد سبق لي - العدد الماضي- إلقاء الضوء علي بعض المواهب الشابة في مختلف مفردات الفن المسرحي خاصة التمثيل، واليوم يسعدني استكمال المسيرة بالكتابة عن بعض "نجوم الغد"، هؤلاء الذين استطاعوا من خلال مشاركاتهم الفنية الرائعة بعرض "شغل أراجوزات" لفرقة "مسرح الفن" لفت الأنظار إلي مواهبهم الفنية المؤكدة. رفع الستار أخيرا عن عرض "شغل أراجوزات" من تأليف/ محمود الطوخي وإخراج القدير/ جلال الشرقاوي، وذلك بعد مشقة كبيرة ورحلة عذاب طويلة استمرت قرابة الثلاث سنوات، تحملها بكل صبر وجلد القدير/ جلال الشرقاوي وشاركه فيها نخبة من أخلص هواة وعشاق الفن المسرحي، حيث تكاتفت بعض رموز الفساد قبل الثورة لإجهاض حلمه ومشروعه الفني الكبير بإغلاق المسرح ومحاولة نزع ملكيته الشرعية له!! ولكن لأن العدل اسم من أسماء الله الحسني فقد قامت الثورة لتتصدي للفساد وتعيد الحقوق، وهاهو "مسرح الفن" يعود لفتح أبوابه من جديد، ليستكمل مشروعه الكبير "المسرح للجميع"، ويساهم في كشف سلبيات الأمس ورسم رؤي للغد بالعرض الجديد "شغل أراجوزات". نخبة متميزة لم يعتمد المخرج القدير/ جلال الشرقاوي في هذا العرض علي مشاركة النجوم بهدف تحقيق المكاسب المادية، ولكنه قام بتوظيف عينه المدربة وحسه الدرامي في اختيار نخبة متميزة من الهواة ومن طلبة وخريجي المعاهد الفنية (أكاديمية الفنون وأقسام المسرح بكليات الآداب)، وقام بمنحهم خبراته المسرحية الكبيرة كما بمنحهم فرصة البطولة الجماعية، وذلك حينما قام بتقديمهم تحت مسمي "فرقة شباب مسرح الفن"، ومن حسن الحظ أنني أعرف القدرات الفنية لعدد كبير من هؤلاء الشباب وذلك من خلال عضويتهم بالجمعية "المصرية لهواة المسرح" ومشاركاتهم بعروضها ومهرجاناتها المختلفة. بداية لابد أن أقرر أن عرض "شغل أراجوزات" يمكن تصنيفه تحت مسمي "الكباريت السياسي"، وأن هذه النوعية من العروض تتطلب من الممثلين المشاركين بها قدرات ومهارات خاصة، فهي تتطلب غالبا مهارات الفنان الشامل القادر علي المشاركة بالتمثيل والغناء والاستعراض، كما تتطلب القدرة علي أداء أكثر من شخصية، وبالتالي تكمن صعوبة التمثيل بهذه العروض ليست فقط في ضرورة تحقيق سرعة وتقمص الشخصيات المختلفة، ولكن أيضا في أن الأداء لتلك الشخصيات التي تتسم غالبا بالنمطية وغياب أبعادها الدرامية، وذلك نظرا لأن تلك اللوحات السريعة المتتالية لاتسنح للكاتب غالبا بفرصة رسم الشخصيات الدرامية بدقة وعناية، حيث يركز اهتمامه بالدرجة الأولي في كيفية تقديم الحدث الرئيسي بكل لوحة، ومحاولة ربطه واتساقه مع باقي الأحداث الرئيسية باللوحات الأخري. ورغم صعوبة المشاركة بالتمثيل في مثل هذه العروض إلا أن هذا العرض قد أبرز موهبة عدد كبير من الممثلين الذين اتنبأ لهم بمستقبل فني كبير بإذن الله وفي مقدمة هؤلاء كل من: محمد الشرقاوي: خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد قدم له القدير/ جلال الشرقاوي فرصة عمره في هذا العرض، حيث يعد البطل الحقيقي من خلال عدد اللوحات التي قام ببطولتها ومن أهمها لوحة التوريث ولوحة الضرائب العقارية ولوحة مهندس الحي، والحقيقة أنه قد اجتهد كثيرا في أداء الشخصيات الدرامية المختلفة وبذل كثيرا من الجهد لتجسيدها وأن جانبه التوفيق في بعض اللوحات، وذلك نظرا لعدم توافق أبعاده الدرامية الشخصية مع تلك الأبعاد الدرامية للشخصيات، ومثال لذلك تجسيده لشخصية لواء بالقوات المسلحة خارج الخدمة بعد مشاركته بثلاثة حروب! وذلك بخلاف اضطراره إلي تحقيق رؤية المخرج بضرورة تقديم الكوميديا ببعض المشاهد مثل لوحة مهندس الحي. فاروق هاشم: طالب بالمعهد العالي للفنون المسرحية (بالسنة الثالثة)، وهو يعتبر من العلامات المضيئة في هذا العرض فهو يتمتع بحضور محبب ولياقة جسمانية جيدة تمكنه من المشاركة في الاستعراض بصورة متميزة، كما يمتلك مفرداته الفنية بصورة جيدة، ولذلك فقد وفق في أداء شخصية "الأراجوز"، وذلك بالرغم من تحمله لعبء التعليق والربط بين اللوحات الكثيرة المتتالية، والذي تطلب منه الاستمرار في محاولة كسر حاجز الملل بمحاولة تغيير الملابس وأسلوب التعليق وكذلك بالاشتباك أحيانا مع بعض المشاركين في الأحداث الدرامية. هبة محمود:مازالت طالبة بالمعهد العالي للفنون المسرحية (بالسنة الثالثة)، وقد شاركت في تجسيد شخصية الأراجوزة، وبالتالي فقد كانت مهمتها الأساسية هي الربط بين اللوحات المختلفة والتعليق عليها، وهي كفنانة تمتلك مواصفات ومقومات النجومية خاصة لعروض القطاع الخاص، فهي ممثلة شاملة قادرة علي المشاركة بالتمثيل والرقص والغناء، وإن لم تسمح لها فرصة التعليق إلي إظهار قدراتها الأدائية. هشام عادل: قام بأداء شخصية لاعب الأراجوز، بالإضافة إلي مشاركته في بطولة بعض اللوحات الأخري كشيخ الدعاة بالمحطات الفضائية وصاحب الفرن ومسئول التضامن وأيضا الموظف بإدارة الجامعة، وهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج، ويمتلك مفردات فنية تؤهله للمشاركة في مثل هذه العروض وأداء تلك الشخصيات المتنوعة، والتي تتطلب مهارات خاصة في التنكر والخروج من شخصية لأخري وتشخيصها بسهولة ويسر مع محاولة إيجاد أبعاد مختلفة لكل شخصية، وهو يتميز بخفة ظل حقيقية وقدرة علي الإضحاك دون ابتذال أو افتعال. أحمد حمدي: وجه مصري أصيل ويمتلك خبرات فنية كبيرة، فقد سبق له صقل موهبته بالمشاركة في بعض العروض الاحترافية، كما نال شرف تمثيل مصر بتقديم ثلاثة عروض للمونودراما في أكثر من مهرجان مسرحي عربي (بالإمارات والمغرب والأردن)، وهو حاصل علي ليسانس الآداب في جامعة القاهرة ومع ذلك فقد التحق بقسم المسرح بآداب الإسكندرية ليصقل موهبته المؤكدة بالدراسة الأكاديمية، وهو يشارك في هذا العرض ببطولة أكثر من لوحة من أهمها لوحة الواسطة، حيث يقوم بتجسيد شخصية ذلك الشاب المكافح خريج كلية السياسة والاقتصاد الذي يحلم بالتعيين كملحق دبلوماسي بوزارة الخارجية، ولكن نظرا لتفشي الواسطة والمحسوبيات يرفض قبوله وتتحطم طموحاته وآماله خاصة بعدما يعلم أنه قد رفض تعيينه لمجرد أن أمه تعمل بائعة للخضار!، وهو يشارك أيضا ببطولة لوحة العلاج بالمستشفيات، حيث يقوم في نفس اللوحة بتجسيد شخصية ثلاثة نماذج من الأطباء بالمستشفيات الحكومية والخاصة، وقد أتاحت له هذه الشخصيات فرصة تقديم الكوميديا بالإضافة إلي تقديمه لثلاث شخصيات متباينة. محمد زكي: يتميز عن باقي أفراد المجموعة بتمتعه بأذن موسيقية وقدرة علي المشاركة بالغناء، فهو يمتلك صوتا شجيا يذكرنا بصوت القدير/ محمد منير،ويعد محمد زكي من أبطال هذا العرض خاصة وقد اعتمد المخرج في رؤيته الفنية علي تقديمه بجميع اللوحات كنموذج للمواطن المصري المطحون الذي يعاني الظلم والقهر والفقر، وذلك منذ اللوحة الأولي التي جسد خلالها شخصية البائع المتجول الذي يصطدم بالشرطة. ميرا سعد: خريجة كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وتدرس حاليا بالتعليم الموازي بأكاديمية الفنون، وهي تمتلك مفردات فنية جيدة كما تمتلك خبرات مسرحية أهلتها بالفوز بالجائزة الأولي لمهرجان المونودراما الثالث الذي نظمته الجمعية المصرية لهواة المسرح عام 2009، وقد تألقت في هذا العرض بأداء دور المذيعة بإحدي القنوات الفضائية، وكذلك أيضا بأداء شخصية إحدي السيدات بالحي الشعبي، ويحسب لها نجاحها في أداء وتجسيد شخصيات متباينة بصورة متميزة. محمد صبري: يمتلك حضورا محببا ووجها سينمائيا، كما يمتلك رشاقة ولياقة الممثل المسرحي، فهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية (قسم التمثيل الإخراج)، ولكن للأسف فإن هذا العرض لم يتح له فرصة إبراز موهبته ومهاراته بصورة جيدة، فبالرغم من نجاحه في تقديم أكثر من شخصية درامية بصورة جيدة خلال اللوحات المتتالية لم تتح له فرصة البطولة المطلقة بإحدي اللوحات وذلك باستثناء لوحة وحيدة وهي لوحة الدراسة بالجامعة، وهي لوحة قصيرة تعتمد علي التشكيلات الجماعية السريعة، وقد أجاد في تقديم شخصية الأستاذ الجامعي كما أجاد تجسيد شخصية الشاب المستهتر باللوحة الأولي. مجدي البحيري: برغم صغر حجم الأدوار التي أسندت إليه في هذا العرض إلا أنه قد استطاع أن يضع من خلالها بصمة فنية واضحة، كما نجح في لفت الأنظار إليه وجذب إعجاب الجمهور بلا تكلف أو افتعال، فهو أحد الممثلين أصحاب الأحجام الكبير والأوزان الثقيلة الذين يتمتعون بالحضور المحبب وخفة الظل الطبيعية، فهو يذكرنا علي الفور بالراحلين لطفي عبد الحميد (فتلة) ومحمد الشرقاوي وعلاء ولي الدين وذلك دون أن يحاول تقليد أحدهم، وقد برزت موهبته عند تشخيصه لشخصيتي جزار الحمير، وصاحب الخرابة الذي يقوم بتأجيرها كغرف مفروشة للمتزوجين حديثا! مايا سعد: قامت بتجسيد أكثر من شخصية في هذا العرض وإن كان تألقها بأداء شخصية الفتاة الانتهازية التي تنجح في خداع أحد العواجيز والزواج منه، وبمجرد تورطه بكتابة بعض أملاكه لها تقوم برفع قضية خلع عليه، حيث سمحت لها هذه الشخصية بأداء بعض المواقف الكوميدية والتعبير عن أحاسيس ومشاعر مختلفة. هذا وقد شارك أيضا في هذا العرض مجموعة أخري من الموهوبين وفي مقدمتهم: نهي فؤاد: الطالبة بالمعهد العالي للفنون المسرحية والتي جسدت شخصية العاهرة باللوحة الأولي وشخصية البائعة والدة خريج كلية السياسة والاقتصاد، و وسام صلاح السمراء الطالبة بالمعهد أيضا والتي تألقت في أداء دور المذيعة بإحدي القنوات الفضائية، وجهاد محمد التي شاركتها أيضا في تقديم لوحة القنوات الفضائية، و حسن عبد المعطي الذي جسد أكثر من شخصية خلال اللوحات المختلفة. وأخيرا أري أن هذه الوجوه الجديدة والمبشرة حقا بكل الخير، قد نجحت بإصرارها في صقل موهبتها بالدراسة والخبرة، كما نجحت أيضا في كسب ثقة مخرج كبير رائد كجلال الشرقاوي، وبالتالي فهي جديرة بأن تتبوأ خلال الفترة المقبلة - بإذن الله - تلك المكانة المتميزة التي تستحقها عن جدارة في حياتنا الفنية، خاصة إذا أتيحت الفرصة لكبار المخرجين بالسينما والدراما التلفزيونية مشاهدة هذه المجموعة بهذا العرض.