كل التوقعات تشير إلي أن سعر البترول سوف يكسر قريبا جدا حاجز الخمسين دولاراً للبرميل الواحد، ولا يلوح في الأفق احتمال ولو ضئيلاً بالسيطرة علي سعر البترول قريبا. وقد تعددت الاسباب والتفسيرات لهذا الجنون الذي أصاب سعر البترول، رغم كل الجهود التي بذلها أعضاء أوبك لزيادة الانتاج. فهناك من يري أن تصاعد المقاومة العراقية، وانتفاضة فقراء الشيعة الذين يتزعمهم مقتدي الصدر السبب الأول والمباشر لهذا الانفلات الذي أصاب سعر النفط، خاصة أن أنابيب النفط العراقية تتعرض الآن بشكل شبه يومي للتدمير والحرق، الأمر الذي يتسبب دائما في انخفاض صادرات النفط العراقية إلي أكثر من النصف أحيانا. ولكن هناك كذلك من لا يستبعد تأثير أزمة شركة "يوكوس" الروسية علي أسعار النفط خاصة أن الاقتصاد الروسي أكثر المستفيدين من ارتفاع أسعار النفط العالمية، ولعله لم ينجح في تخطي أزماته الحادة إلا في ظل هذا الارتفاع الذي حقق له موارد مالية اضافية كان في أشد الحاجة ليها. وهناك أيضا من يعتقد أنه لا يوجد سبب اقتصادي حقيقي يبرر هذا الارتفاع المستمر والمطرد في أسعار النفط لأن العرض يكفي الطلب الحقيقي علي النفط، ولكن هذا الطلب زاد كثيرا خلال الشهور الأخيرة نظراً لاتجاه كثير من الدول المستوردة للنفط لزيادة مخزونها البترولي وهنا يعتقد هؤلاء أن الاتجاه لزيادة المخزون من البترول لا يفسره سوي أسباب نفسية وليست اقتصادية، وهي أسباب تتعلق بالخوف من المستقبل، أي لخوف من عدم انتظام واردات البترول، خاصة أن مناطق إنتاجه وتوريده إما تعاني اضطرابا مرشحا للاتساع مثل منطقة الشرق الأوسط، أو تعاني عدم استقرار مثل منطقة القوقاز. وقد يكون لكل هذه الأسباب دور فعلا في الانفلات الذي أصاب أسعار البترول ولكنها أسباب كانت موجودة منذ شهور طويلة، فاضطراب امدادات النفط العراقية موجود منذ عام أو منذ أن بدأ الاحتلال الأمريكي للعراق.. وأزمة شركة "يوكوس" ليست جديدة، وتعرضها للانهيار احتمال مطروح علي الساحة العالمية والروسية منذ شهور خاصة في ظل اصرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علي تقليم أظافر مليارديرات اليهود والأثرياء الجدد في روسيا وتقليل نفوذهم السياسي إلي أقصي حد ممكن. ويتبقي هنا الاتجاه في داخل الدول المستهلكة للنفط إلي زيادة مخزونها من البترول.. واللافت.. حقا للانتباه هنا أن الذي بدأ هذا الاتجاه هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم انتقلت العدوي إلي أوروبا وبقية مستهلكي النفط. ورغم احتلال القوات الأمريكية للعراق وسيطرتها علي حقول النفط فيه منذ وقت مبكر فقد شرعت واشنطن تقود هذا الاتجاه لزيادة المخزون النفطي لها. وثمة اصرار واضح علي ذلك رغم أنه يؤدي إلي زيادة الطلب علي البترول في السوق العالمي وهو الأمن الذي يلهب أسعاره العالمية ولا يعني ذلك سوي أن الولاياتالمتحدة لا ترغب في تهدئة أسعار النفط العالمية، بل ربما كانت تجد مصلحة لها في هذا الالتهاب الذي أصابها.. فهذا الالتهاب يؤثر بشدة علي اقتصاديات أوروبا ويزيد مشاكلها ويضاعف أعباءها، ويقلل معدلات نموها مستقبلا، ونفس الأمر بالنسبة لليابان، وهذا أمر ترغب فيه واشنطن بالقطع وتتمناه لعرقلة هذه الدول في مضمار التنافس الاقتصادي عالميا. وقد يقول قائل إن هذا الارتفاع يؤثر علي الاقتصاد الأمريكي أيضا في ذات الوقت، ولكن قد يقلل من هذا التأثير وربما يلغيه سيطرة أمريكا علي بترول العراق بالكامل وحتي الآن لا يعرف أحد علي وجه الدقة والتحديد كم صدرت أمريكا من هذا البترول ولمن وكم حصلت علي عائدات، والأهم أين ذهبت هذه العائدات؟ إن ثمة تقارير كثيرة تتحدث عن حصول أمريكا علي بترول العراق بسعر بخس، واستيلائهاعلي عائد ما تبيعه من هذا البترول بحجة المساهمة في تمويل احتلالها للعراق، أو ما تسميه فرض الاستقرار فيه وتكوين عراق ديمقراطي جديد. وهكذا.. وبهذا المعني يكون التهاب أسعار النفط عالميا أمرا مفيدا وليس مفراً للولايات المتحدة، فهو يضر منافسيها في أوروبا، ولا يلحق بها هي شخصيا أي اضرار. ولعلنا لم ننس بعد التقارير العديدة التي كانت تتحدث قبل غزو العراق عن التهاب متوقع في أسعار النفط لعقاب أوروبا علي ما فعلت تجاه أمريكا ورفضها مساندة هذا الغزو أو منحه الشرعية الدولية التي كانت تبغيها واشنطن أما ما كان يلوح به الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان قبل الغزو بوقت طويل حول احتمالات انخفاض هائل في سعر النفط بعد سيطرة أمريكا علي العراق وحقول نفطه، فإننا يمكن فهمه في اطار أنها كانت محاولات غير مباشرة لاغراء أوروبا المعارضة للغزو للتخلي عن هذه المعارضة ومنح تأييدها له ومساندتها لأمريكا فيه. ولذلك لن تنجح جهود دول أوبك في تخفيض أسعار النفط العالمية الآن مهما قامت بزيادة إنتاجها. وقديما قالوا فتش عن المستفيد.. والمستفيد الآن في رفع أسعار النفط هي الولاياتالمتحدةالأمريكية.